لا أعرف، ولن أعرف أبداً، ما الذي جعل علي ينجذب إلى هارولد ماكميلان، رئيس الحكومة البريطانيّة عهدذاك. كان يعدّ أسماء الذين يحبّهم والتي تعلّمها جميعاً من إذاعة «صوت العرب» المصريّة: نهرو وتيتو وسوكارنو ونيكروما ومكاريوس، وطبعاً جمال عبد الناصر الذي كان مَن عرّفه إلى الآخرين. فهؤلاء، في النهاية، أصدقاء عبد الناصر، معبوده ومعبودي، كان يزورهم في بلدانهم ويستضيفهم في بلده مصر، ثمّ تنشر الصحف صورهم وهم يتبادلون الابتسامات العريضة ويتوعّدون الاستعمار. وأغلب الظنّ أنّ الملابس غير الغربيّة التي كان يرتديها معظمهم، بألوانها وزركشاتها الكثيرة، كانت تضاعف اهتمام علي بهم. لكنّه، والعلم في ذلك عند الله، كان يضيف إليهم اسم هارولد ماكميلان الذي يبدو نافراً جدّاً في تلك القائمة. ما أعرفه أنّ سليم، خال أمّي الذي كنت أسمّيه خالي، كانت تستفزّه فعلة علي الملغزة. ذاك أنّه يُقحم اسم هذا الرجل الاستعماريّ بين أسماء رجال «أوادم» بما يُوقد الحطب في أعصاب الخال المناهض بشدّة للإمبرياليّة. وكلّما كان علي يذكر اسم ماكميلان، كان سليم يردّ بغضب بادٍ وصوت مرتفع: «يلعن أبوك على أبو ماكميلان... بعدْ ناقصنا تحبّ ابن غوريون وتذكرو مع هالأبطال اللي حرّروا شعوبهن». وذات مرّة، وقد استبدّ الغضب بالخال، مدّ يده إلى المنفضة التي كانت أمامه على الطاولة وقذفها باتّجاه علي. ولحسن الحظّ أزاح الأخير رأسه قبل أن يفرّ إلى خارج غرفة الجلوس، تلاحقه نظرات من الخال يمتزج السُمّ فيها بالنار. لكنْ ما إن ابتعد علي قليلاً وأحسّ بالأمان، حتّى راح يهتف وهو يقهقه، كأنّه يمضي في المناكفة: عاش ماكميلان، عاش ماكميلان... ومرّةً سألته مَن هو هارولد ماكميلان فلم يُجبني، ثمّ سألته عن السرّ الذي يدفعه إلى زجّ اسمه في قائمة محبوبيه، فرفع إصبعه وثبّته على رأسه ثمّ حملق إلى الأعلى، كأنّه يقول لي إنّه حرّ بمزاجه وأهوائه، وما عليّ إلاّ التعامل معه وفق هذا المبدأ. وهو وضعٌ أصابني بشيء من الحيرة في ما خصّ ماكميلان. فسليم، عطفاً على كونه خال أمّي، أحد مراجعي في الوطنيّة وفي فرز الخطأ عن الصواب. لكنّ لعلي، الذي يكبرني بثلاث سنوات أو أربع، فضلاً عليّ: فهو يحيطني بأخبار الترانزستور وبتأويل معانيها، كما يتواطأ معي حين لا أذهب إلى المدرسة مختاراً مشاركته الاستماع إلى «صوت العرب»، فلا يخبر الأهل بذلك. وأنا، بعد كلّ حساب، لم يساورني أدنى شكّ في أنّ علي لا يقلّ عن سليم حبّاً للعروبة ولجمال عبد الناصر. هكذا استقرّت بي الأمور عند نقطة وسطى، بحيث أتحفّظ ممتنعاً عن ضمّ ماكميلان إلى قائمة المحبوبين المختارين، كما يفعل علي، لكنّني أعزف عن شتمه والتهجّم عليه، كما يفعل الخال، معوّلاً على أن يتولّى المستقبل وضع النقاط على الحروف. وهو سلوك بدا أشبه بحكمة مبكرة تمنح ابن التاسعة الذي كنتُه منصّة تحكيم لا يستحقّها في أمر ماكميلان. بيد أنّ علاقة علي بالسياسيّ البريطانيّ المحافظ تعرّضت مرّة واحدة لما كاد يهدّدها، فلم ينقذها إلاّ سخاؤه في التأويل. فقد سمع أحمد سعيد، مذيع «صوت العرب» الأشهر، يهاجم ماكميلان بالاسم ويسخر منه، فجاءني مُمتقع الوجه ومهتزّ اليقين كأنّه على مرض. وإذ سألته عمّا إذا كان متأكّداً ممّا يقول، ردّ بأنّه سمع أحمد سعيد بأذنه ولم يُخبره أحد آخر بالأمر. فهو، لولا هذه الواقعة الدامغة، كان يمكنه أن ينفي كلّ خلاف بين عبد الناصر وماكميلان، فيقول مثلاً إنّ نساء القرية اللواتي اتّهمهنّ بطول اللسان، يحاولن إيقاع خلاف بينهما لا أثر له في الواقع، أو يقول إنّ سليم يهرف بما لا يعرف في السياسة والتحالفات، أو أنّ مكائد كميل شمعون وعملائه تروّج هذه الشائعة الكاذبة. أمّا أنّ مرجعه المباشر أحمد سعيد، الذي كان علي يظنّه ابن شقيق عبد الناصر، قد سمّى ماكميلان بالاسم، فهذا ما يستحقّ صفنة طويلة يحاول أن يتدبّر بها محنته الطارئة. ولم يطل به التردّد والتفكير. فقد افترّت شفتا علي عن بسمة واثقة أرفقها بالقول إنّها «لعبة»، غامزاً بإحدى عينيه غمزة عارف مُلمّ بما يجري في الخفاء، وهازّاً رأسه قليلاً إلى الأعلى وزامّاً شفتيه. ذاك أنّ عبد الناصر، بسبب من فطنته الخارقة، يريد أن يُظَنّ أنّه يكره ماكميلان، فيكلّف ابن شقيقه بثّ هذه المعلومة على أوسع نطاق ممكن. لكنّ الحقيقة أنّ الزعيم المصريّ لا يكره السياسيّ البريطانيّ، بل يكره أشخاصاً آخرين كملك الأردنّ حسين. فحينما يحين الوقت لإطاحة حسين، سيأتي من يعاتب عبد الناصر على عمله هذا، وعندها يقول الأخير لمعاتبه: أنا أكره ماكميلان ولا أكره الملك حسين بشهادة ما قاله ابن أخي في الإذاعة. وأنهى علي فتواه الثاقبة هذه بملاحظة أنّ للسياسة أصولاً لم يعد في وسع سليم أن يفهمها، هو الطيّب القلب والعصبيّ الذي بدأت السنّ تتقدّم به. هكذا بقيت أحجية ماكميلان بلا تفسير، خصوصاً أنّ علي لم يحاول مرّةً أن يبدّد الغموض الكبير. فهل عرف مثلاً أنّ ماكميلان حلّ محلّ أنتوني إيدن بعد فشل حملته على السويس واستقالته المهينة، فأحبّه بوصفه بديل إيدن؟ أم أنّه رأى صورته الشهيرة تلك، التي كانت الصحف تُكثر نشرها، وهو ممدّد على الأرض يستريح في رحلة صيد، وإلى جانبه كلبه وبندقيّته، فأعجبته الصورة؟ أم أنّه أُخذ بمظهره الأنيق ووجهه الواضح القسمات وشاربيه المنظّمين؟ أم أنّ اسم ماكميلان بدا له غرائبيّاً ومارس عليه سحراً خاصّاً؟ من دون أن أستطيع الجزم، تستوقفني الفرضيّة الأخيرة قليلاً. فعلي كانت تلفته الأسماء غير المألوفة، وكان من أصحاب هذه الأسماء جوزيف بروز تيتو، لا سيّما كلمة «بروز» حيث كان يشدّد على حرف الزين ويضحك ضحك مودّة لا ضحك استهزاء، كأنّه يقول إنّ الزعيم اليوغوسلافيّ محتال قليلاً، إلاّ أنّه يوظّف صفته هذه لمصلحة الشعب. والأمر نفسه يصحّ على جواهر لال نهرو الذي بدا له عظيماً يستحقّ أن يُذكر بجدّيّة وإجلال أكبر، وهو تقدير ربّما نجم عن كلمة «جواهر». وأذكر أنّه مرّةً شاورني، وقد سمع اسمه في صيغة البانديت نهرو، في معنى «بانديت» الذي كنت أجهله، فقلت له إنّه ربّما كان لقباً يعطيه الهنود لمن يحبّون العرب منهم. ويظهر أنّ جوابي عزّز حبّه للزعيم الهنديّ وأقنعه بصوابه. والزمن، في الحالات جميعاً، فعل فعله. فقد انقضى ربع قرن لم أكن في خلاله أرى علي إلاّ نادراً، وعرفت أنّه في هذه الغضون انضمّ إلى «جبهة النضال الشعبيّ» واتّخذ لنفسه اسماً حركيّاً، كما صار، عشيّة اندلاع الحرب، أحد قياديّي تلك الجبهة في شمال لبنان. أمّا بعدما اندلعت، فتوهّم أنّه يستطيع الوصول من طرابلس إلى بيروت عبر حاجز البربارة الكتائبيّ، وثمّة من يقول إنّه كان ينقل منشورات وبطاقات أصدرتها الجبهة إيّاها. فهو ربّما ظنّ أنّ كتائبيّي الحاجز لن يعرفوه، وربّما حمل بطاقة هويّة مزوّرة باسمٍ غير اسمه، وربّما تراءى له أنّهم لن يجرؤوا على إيذائه. لكنّ توقّعات علي، كائنة ما كانت، أخطأت سبيلها، فلم يظهر له أثر بعدما شوهد في البربارة. أمّا الجبهة التي انتمى إليها فما لبثت، بعد بضعة أسابيع تأكّد فيها خبر وفاته، أن نعتْه بوصفه «الرفيق القائد الشهيد هارولد ماكميلان».