جميعنا يعرف موقف البعض من اليوم الوطني واحتفالياته، وهو الموقف الذي تم التأسيس له منذ فترة ليست بالقصيرة من قبل فئة جعلت التحريم (في أمور عديدة) محل الحل، وبهذا حولوا هذه المناسبة الوطنية إلى مادة إعلامية يدسون بها السم في العسل (وفي أحيان يقدمون السم من غير عسل)، وتظهر آثار ذلك السم من خلال ادعاء أكاذيب عديدة يتم تلفيقها وبثها على أنها وقائع حدثت هنا أو هناك بغرض تشويه المناسبة، ويحرصون تماما على استغلال أي حادثة تحدث في اليوم الوطني ليتم تضخيمها وإضافة زوائد مكذوبة لكي يلتصق في أذهان الناس أنها نتاج تلك الفرحة. وموقف هذه الفئة موقف سلبي من الوطن برمته، بدءا من تحية العلم، مرورا بأمنه واستقراره، ووصولا إلى مناسبة الاحتفال بوحدته! هذا الموقف العدائي لمفهوم الوطن فكرة منشأها تسفيه فكرة الإقليم والسعي إلى إيجاد الوطن الكبير، وهي فكرة وحدوية عظيمة حين كان بالإمكان صياغة تلك الوحدة في ظل الخلافة الإسلامية والظرف السياسي المرتبط بزمنه السابق، إلا أن سقوط الخلافة بعد الحرب العالمية الثانية أوجد واقعا جديدا قائما على الإقليم الإسلامي، فغدا العالم الإسلامي أقاليم متعددة لكل منها دولته وحدوده وشعبه، وهو ما تم التعارف عليه بمفردة (الوطن)، وهو شكل لم يقتصر على العالم الإسلامي، بل شمل معظم أمم العالم كصمام أمان لعدم حدوث حروب توسعية، فأبرمت المعاهدات وتم الاعتراف من قبل هيئة الأمم المتحدة بإقرار الواقع الراهن (بعد حرية تقرير المصير)، وبهذا طاب للعالم هذه الخارطة الدولية منعا للحروب والقضاء على فكرة التوسع العسكري، وإن كان هناك من تضرر من هذا الواقع الذي غيب التاريخ واستحضر الجغرافيا، إلا أنه أمر لم يخص العالم الإسلامي وحده، فكثير من الأمم غدت دولا وأوطانا التفتت لواقعها، وغدا همها الأساس إنماء إقليمها الذي تعيش فيه مع إحداث وحدة جديدة مع المتشابه تتلاءم مع واقع الجغرافيا كالوحدة الاقتصادية أو الثقافية أو الصناعية أو التقنية، أي أن العالم غير أدواته وأساليب وحدته (كأمم وجماعات) بما يتكيف مع الواقع، وغدا الوطن بواقعه الجغرافي وحدة وجود للمنتمين له. هذا المتغير لم يتم استيعابه من قبل الحالمين بالماضي، فعاشوا من أجل تفتيت وحدة وطنهم والسعي إلى تمزيقه ركضا خلف حلم جف على وسائد الماضي وتجربة الإخوان المسلمين ليست بالبعيدة، فهي تجربة لا تزال طازجة وتجسد فكرة الاستخفاف بالوحدة الوطنية مقابل حلم يرفضه الواقع ولا يستجيب له الأفراد. وتعزيز فكرة الوطن كوحدة سياسية لا تتأتى إلا من خلال الإيمان به كوجود يتم التفاعل فيه وعليه ومن أجله، بحيث يكون إنماؤه قائما على البناء وإصلاح اعوجاجه من داخله، وليس من خارجه، كما أن الاحتفاء به تذكيرا بما أنجزه وبما يؤمل فيه.. فكما تكون ذكرى بناء ووحدة هي أيضا ذكرى لما يجب أن يكون عليه في الأعوام التالية، ولما يكون عليه مواطنوه من رفعة ورفاه، وبما يكون عليه من أمن ونماء.. هي ذكرى ليس للتشويه والتقليل والتحجيم وإلصاق النعوت الضارة بسيادته وبمواطنيه. فكيف لنا أن نجعل من هذه المناسبة مناسبة بناء وطن ومواطن، ليصبح هناك معانٍ عدة لمغزى التذكير بالوحدة.. فهي مناسبة لتذكر أين كنت وأين أصبحت وأي صبح تريده في الذكرى القادمة.. أما أن تستغل الذكرى لتشويه كل المنجزات من قبل فئة لا ترى أبعد من خشمها، فهذه الرؤيا تجعل اللسان أطول من الأبصار والتبصر.