لم يَعُد الموت مرعباً في الموصل، الحياة فيها أضحت أكثر رعباً، الدقيقة هناك بيوم، واليوم بسنة، حقّاً ما يجري فيها هولٌ من أهوال يوم القيامة، ترى الناس فيها سكارى، وما هُم بسكارى، ولكن ما يلاقونه تعجز الجبال الراسيات عن تحملّه، فما أصعب أن ترى الموت مرسوماً في عيون أطفالك، ولا تستطيع فعل شيء، فإن خرجت من المنزل تُقتل بالرصاص، وإن بقيتَ فيه يدفنك القصف تحت ركامه، بات الأحياء يحسدون مَن مات منهم، فكل يردد: "يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نَسياً منسيّاً". لقد غُدِرَ بالناس هناك غدراً، فالحكومة العراقية ألقت ملايين المنشورات عبر الطائرات تقول لسكّان الساحل الأيمن من المدينة: "حفاظاً على سلامتكم، لا تخرجوا من بيوتكم"، التزم الناس بما أُمروا به، وانتظروا دخول مَن يحررهم، وإذا بأطنانٍ من المتفجرات تنزل عليهم من السماء مدراراً، سوّت أحياءً كاملة بالأرض، ودُفن آلاف الأبرياء تحت أنقاضها، ولم يُرسلوا حتى آلياتٍ لانتشال الجثث. المرصد العراقي لحقوق الإنسان أعلن، يوم الجمعة، أن فرق الدفاع المدني والأهالي انتشلوا بمعداتهم وإمكانياتهم البسيطة جثث 500 مدني قُتلوا خلال الأيام الأخيرة فقط جراء القصف، ولأنَّ الناس لا يستطيعون الخروج من منازلهم، فقد تحوّلت حدائقهم إلى مقابر، فهم لم يجدوا مكاناً غيرها لدفن موتاهم، أمّا من بقي حياً فهو يموت في اليوم ألف مرّة! نحو 263 منهم اعترفت القيادة المركزية الأميركية بمسؤوليتها عن قتلهم، لكنها دافعت عن نفسها بأن القصف جاء بناءً على طلب من السلطات العراقية، وزعمت أنها تُجري تحقيقات حالياً لـ"الوقوف على الحقائق المحيطة بتلك الضربة الجوية". حي كامل تمت تسويته بالأرض على رأس ساكنيه، إنها جريمة حرب، وإبادة جماعية مكتملة الأركان، وهي أكبر من أن يمحوها أو تنتهي بتصريح باهت ماكر تريد به واشنطن التخلّص من تبعاتها، لا بد من لجنة دولية للتحقيق، تُفضي إلى محاسبة مرتكبيها؛ الذين خططوا والذين نفّذوا، أيّاً كانوا، وعلى البرلمان العراقي ونوابه أن يتحرّكوا ويحرّكوا هذه القضية، وإن لم يفعلوا فهم شركاء في هذه الجريمة البشعة. ما كان يُتوقّع أن تحدث كلّ هذه الوحشية في المرحلة الثانية والنهائية من معركة تحرير المدينة، فالمرحلة الأولى -تحرير الساحل الأيسر- كانت نظيفةً إلى حد ما، والحرص على أرواح الناس وممتلكاتهم كان ملحوظاً بشكلٍ كبير، فالكل رأى كيف فرح الأهالي واستقبلوا الجنود استقبال الأبطال، واحتفوا بهم أيّما احتفاء، لكنّ الأمر وللأسف لم يكن كذلك في تحرير الساحل الأيمن، فسياسة "الأرض المحروقة" كانت العنوان الأبرز لهذه المرحلة، ومن الواضح أنّها أُريدَ لها أن تكون كذلك، تحريراً على طريقة كوباني. تنظيم داعش هو الآخر لم تكفِهِ جرائمه بحقّ الموصلييّن ولم يرتوِ من دمائهم طيلة ما يقارب الثلاثة أعوام، فأبى إلا أن يُكمل مسلسله الدموي بحقهم، فقد أعلن المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن عناصر التنظيم أقدموا يوم السبت على إعدام 122 مدنياً حاولوا الفرار من أحياء الرفاعي و17 يوليو/تموز الخاضعَين لسيطرته. نعم.. المعركة صعبة ومعقّدة، خصوصاً أن الأحياء متهالكة وعناصر داعش فخّخوا كثيراً من منازلها وطرقاتها ونشروا سيارات مفخخة، وأجبروا الناس على البقاء في منازلهم، لكن من واجب القوات العراقية انتهاج أسلوب للقتال ينسجم مع هذه المعطيات، لا أن تحيل أحياءً كاملة إلى ركام، وتدفن الآلاف من أهلها تحتها بسبب بضعة دواعش، هذا لا يسمّى تحريراً، بل تدميراً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.