مرت الذكرى الرابعة لثورة «25 يناير» ومصر أبعد ما تكون عن الوضع الذي سعت إليه الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. فالنظام المصري الذي أقيم بعد إطاحة الرئيس المنتخب أعاد مصر إلى حكم العسكر وأعاد الدولة التسلطية التي قامت الثورة لإسقاطها. لم تكن المؤسسة العسكرية المصرية مع التغيير في مصر، لكنها كانت في صراع خفي مع الرئيس المخلوع حسني مبارك على خلفية قضية التوريث، فقد كانت متمسكة ببقاء الرئاسة بيد العسكر. ولما انطلقت الثورة كان موقفها سلبياً منها لكنها لم تتدخل لمصلحة مبارك، في انتظار قبض الثمن، وأصدرت بيانين ظاهرهما حيادها إزاء المواجهات ووقوفها لحفظ الأمن وحماية البلاد. جرب حبيب العادلي، وزير الداخلية، كل الأساليب الوحشية في قمع الثورة من نشر الفوضى بإطلاق المجرمين من السجون ودفعهم إلى ميدان التحرير لتشويه صورة الثوار عبر السرقات والتحرش بالمتظاهرات واغتصاب بعضهن، إلى استخدام الغازات المسيلة للدموع والرصاص الحي مروراً بدهس المتظاهرين بسيارات الشرطة، وصولاً إلى هجوم البلطجية في ما اشتهر بموقعة الجمل. عندذاك تنازل مبارك للمؤسسة العسكرية وعين اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة وابن المؤسسة العسكرية، نائباً له، والفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، على أمل أن ترد الجميل وتقمع الثورة. غير أن القرار جاء في توقيت غير مناسب، جاء بعد انفجار بركان الغضب الشعبي واتساع نطاق التظاهرات وبلوغ المشاركة الشعبية ذروتها، بخاصة يوم 28 - 1 - 2011، والذي عرف بـ «جمعة الغضب»، حيث تجاوز عدد المتظاهرين الـ8 ملايين. فلم تجد المؤسسة العسكرية بداً من ممالأة الثورة لتخفيف التوتر والغضب الذي صعده سقوط أكثر من ألف شهيد، عبر إقالة عدد من المسؤولين (حبيب العادلي وأحمد عز وآخرين)، كمدخل لحماية مبارك لكونه ابن المؤسسة. فمن سياسة المؤسسة العسكرية المصرية حماية ضباطها حتى لو ارتكبوا أخطاء جسيمة تصل إلى درجة القتل ومثالها الأبرز تجنيب عبود الزمر القيادي في تنظيم الجهاد الذي خطط لاغتيال السادات (كان حينذاك رائداً في المخابرات الحربية) حكم الإعدام والاكتفاء بسجنه، والتعاطي مع الثورة بالنفس الطويل وإجهاضها خطوة خطوة. لكنها أدركت فشل محاولات التهدئة من دون كبش فداء كبير، فتنحى مبارك يوم 11 - 2 - 2011 بعدما عهد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تولي السلطة. باشر «المجلس» قيادة البلاد وبدأ باتخاذ القرارات التي تعزز موقعه في المشهد السياسي من جهة وتحمي مصالحه الواسعة من جهة أخرى، فكان الإعلان الدستوري يوم 30 - 4 - 2011 الذي أصدره الفريق سامي عنان لتعديل صلاحيات «المجلس» وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ووضع خريطة طريق معكوسة تبدأ من الانتخابات البرلمانية، وتؤخر صوغ دستور جديد للبلاد، حتى يضرب المعارضة ببعضها ويمزق صفوفها ويكرس الشقاق بينها. وقد نجح في ذلك حيث برز الشقاق بين «الإخوان المسلمين» والسلفيين من جهة والليبراليين وشباب الثورة من جهة ثانية. وسهلت طموحات جماعة «الإخوان المسلمين» السياسية واندفاعهم الكبير للإمساك بالسلطة، على «المجلس» توجيه ضربات للثورة من خلال التصعيد ضد اعـتصامات ميدان التحرير (أحداث شارع محمد محمود) وإجراء انتخابات برلمانية، كي تحول دون إعطاء شباب الثورة فرصة المشاركة في الانتخابات، وإثارة صراع بينهم وبين «الإخوان» الذين فازوا بالغالبية على خلفية ترك الميدان لتحقيق مكاسب انتخابية فاتُهم «الإخوان» بخيانة الثورة. وأضاف «الإخوان» سبباً آخر للنفور والتمزق بالترشيح لانتخابات الرئـاسة وفوز الدكتور محمد مرسي فيها. لم يكن لشهوة السلطة عند «الإخوان» حدود فبدأوا بالتغلغل في أجهزة الدولة، بخاصة الإعلام والقضاء، حيث بدأوا باستبدال المسؤولين وتعيين الأنصار والموالين، في محاولة واضحة «لأخونة» الدولة. وأظهر شريط مصور لاجتماع مكتب شورى الجماعة أن السلطة تدار من مكتب الإرشاد وأن الرئيس مرسي الذي قال هو نفسه في الشريط، أنه ليس إلا منفذاً لتوجيهات المرشد. وتم ذلك بتجاهل تام لدلالة نتائج الانتخابات الرئاسية حيث فاز الدكتور مرسي بنسبة 51 في المئة من أصوات الناخبين ما يعني أن 49 في المئة كانوا ضد انتخابه. وهذا كان يستدعي رأب الصدع وإعطاء أولوية لإعادة التماسك والوحدة الوطنية عبر كسب رضا الرافضين وتعاونهم، وليس تحدي رغبتهم وتجاهل إرادتهم. وفي السياق ارتكب الدكتور مرسي غلطة الشاطر بإصدار الإعلان الدستوري بتحصين قراراته من الطعن أمام القضاء الدستوري، وإجراء تعديل في تركيبة المجلس الأعلى للقـوات المسلحة، عبر إحالة عدد من كبار الضبـاط إلى التقـاعد وتعيـين آخرين في مواقعهم، ما اعتبرته المؤسسة العـسكريـة تجرؤاً ومساً بهيبتها وتجاوزاً لخطوط حمر عمرها عقود، وسابقة للتدخل في شؤونها والحد من نفوذها. وتفاعلت سياسات «الإخوان» الاستحواذية مصحوبة بتوقف عجلة الإنتاج وتراجع مستوى الخدمات (الكهرباء، الماء والوقود) وارتفاع نسبة البطالة والغلاء وانهيار سعر الجنيه، فأطلقت ردود فعل شعبية غاضبة عبرت عنها إضرابات العمال والموظفين والاعتصامات المضادة للنظام جسدتها حركة «تمرد» التي خاضت معركة إعادة النظر في شرعية حكم «الإخوان» عبر جمع التوقيعات والتظاهرات الضخمة (أكبرها يوم 30 - 6 - 2013) التي منحت المؤسسة العسكرية فرصة استثمار الموقف وركوب المد الشعبي المعارض. وشجعها مناخ عربي مضاد لحكم «الإخوان»، والانقضاض على السلطة والانقلاب على الرئيس المدني الأول المنتخب، ليسود القمع والبطش ضد «الإخوان» بدءاً بفض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة وقتل مئات المعتصمين إلى ملاحقة شباب الثورة الذين تظاهروا احتجاجاً على عودة القمع بموجب قانون التظاهر الذي أصدره الرئيس الانتقالي بـتـوجـيـه من المجلس. ودخلت مصر في مرحلة انتقالية جديدة وخطة خريطة طريق بديلة تحت هيمنة المؤسسة العسكرية التي بدأت إعادة تشكيل المشهد السياسي المصري وتغيير القوانين الناظمة لعمل الحكومة بدءاً من قانون التظاهر إلى قانون الإعلام والاستثمار إلى قانون الانتخابات النيابية الذي صيغ بحيث يضبط تركيبة البرلمان عبر تحديد نسبة 70 في المئة للقوائم الفردية و30 في المئة للقوائم الحزبية، بما يفرز برلماناً ضعيفاً غير قادر على لعب دور تشريعي وازن أو تشكيل معارضة جادة وقوية. ناهيك بتحصين المؤسسة العسكرية دستورياً عبر منحها حق تسمية وزير الدفاع واستقلالية وضعها المالي بإلغاء حق البرلمان في مناقشتها أو مساءلة المؤسسة عن أوجه صرفها. عادت مصر إلى ما قبل الثورة وعادت المؤسسة العسكرية إلى حكمها وتعزيز دورها عبر قوانين جائرة جعلت التسلطية سياسة معتمدة وآلية عمل لقهر المجتمع وإعادته إلى بيت الطاعة. لم تنتهِ المعركة فالتظاهرات ما زالت تخرج ضد الانقلاب وضد سرقة الثورة وإعادة البلاد إلى النظام التسلطي، والتضحيات تقدم، وكان آخرها ما حصل في الذكرى الرابعة للثورة، ما ينذر باستمرار حالة عدم الاستقرار وانعكاسها السلبي على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، بخاصة مع عودة العنف والتطرف وتنامي نشاط الحركات «الجهادية». * كاتب سوري