لماذا يقرع الإنسان سنه أو يعض شفته عندما يندم أو يفوته شيء مهم...؟! لست أدري، وإن كان بعض علماء النفس سوف يحللون ويطيلون في التحليل، ويعللون، ويطيلون في التعليل.. فهم خبراء العلل النفسية.. مع أنهم ربما كانوا أيضاً سبباً في كثير من علل النفس، وأوهامها ومتاعبها.. لأن بعضهم -ولا أقول كلهم- يفحصون المريض، كما لو كان جذع شجرة، فينظرون إلى طوله، وعرضه، وقشرته، وجذوره التي تبعث الماء، ثم يأخذون في التحليل، وفق ما يشتهون، والمريض المسكين يعاني من آلامه وأوجاعه الروحية، والتي كثيراً ما أخطأوا الطريق إليها ومعرفة أسبابها... وعلى كل حال هذا خروج اقتضته الضرورة لمعرفتي ببعض علماء النفس الذين ينظرون إلى الإنسان -كما أسلفت- كجذع شجرة مريضة ومن ثم فقد يكون كل إنسان في نظرهم مريضاً أو لدية عقدة ((ما)) حتى مسألة الحب والعشق، والوله فكل ذلك إنما هو نوع من أنواع المرض النفسي..! ما علينا.. فلنعد ونسأل: لماذا يضرب الإنسان سنّه أو يقرعه إذا ندم.؟! قلت في البداية: لست أدري ولكن تعليلي- والذي قد لا يكون صائباً على كل حال- هو أن السن أداة قضم، أي أداة الشيء الذي يؤكل.. ومعظم غايات كثير من الناس تدور حول الأكل، والشبع، والخوف من الجوع.. ومن ثم فإن المأسوف عليه، أو الذي جرى عليه الندم هو في النهاية مما يؤكل أو يكون سبباً في تأمين الأكل، والبلع، حتى لو لم يكن مما يوضع على الموائد غير أنه جالب للأكل وسبب من أسبابه، أليسوا يقولون إن فلاناً قطع رزق فلان إذا فصله أو إذا جمّد وظيفته أو ترقيته مثلاً.. بل ربما قالوا بلع ماله أو أرضه، خاصة إذا كان البالع قوياً والمبلوع مستضعفاً.. بل إن الإنسان لو خسر مئة سهم مثلاً فإنه يقرع سنه، أو يعض على شفته فكأنه يقول أواه لقد خسرت مصدر الحياة، أي ثمن الأكل وذلك بدون شعور منه، وبإيحاء من غريزة الأكل فقد قرع سنه، وعض على شفته وكأنه يقول لنفسه: لقد فاتتك الغنيمة... ولكن ربما قد يعترض معترض ويقول هذا كلام تنقصه الدقة، وربما هو بعيد عن الصحة، فالشاعر الجاهلي تأبط شراً يقول: لتَقَرعنّ عليّ السّنَ من ندمٍ .. إذا تّذكرتَ يوماً بعضَ أخلاقي.. وسأخرج يا أعزائي قليلاً، وأستبق ما قد يحدث.! فقد يعترض بعض الحمقى، والعجزة عن تذوق الفن العريق ويقولون مالنا ولهذا الشعر المحنط القديم.؟ لشاعر محنط قديم..؟ فأقول لهم: صه.. أنتم والله المتخلفون، والمحنطون فالشاعر يظل عظيماً بسبب عظمة شعره لا بسبب طول زمنه.. وخذوا الدليل على ما أقول دامغاً.. فهذا الشاعر الصعلوك القديم قد أخذ لبّ شاعر عالمي عظيم هو الشاعر الألماني "غوته" الذي فتن به فتوناً لا يصدق، وقد ترجم قصيدته: إنّ بالشّعبِ الذي دُون سَلع... ترجمها إلى الألمانية.. ثم ترجمت من الألمانية إلى العربية.! وقد ترجمها إلى العربية من الألمانية الدكتور عبدالغفار مكاوي... أورد هذا لأقول لكم إن الشعر العظيم سيظل خالداً بصرف النظر عن قدم الزمن وبعده ما دام هناك بشر يتذوقون الفن الإنساني العظيم.. ولكننا بلينا مع الأسف برعاع ومتطفلين على الشعر والأدب، إذ لا يفهمون من الإبداع إلا ما كان مستحدثاً منقطعاً عن التراث والإبداع العريق.. مع أنهم ومن المضحك يؤمنون بالشعوذات والأساطير والنصوص والأشعار اليهودية القديمة باعتبار فلسطين وطناً لليهود لأنهم "أي اليهود" مروا بها ذات يوم منذ ثلاثة آلاف سنة!! ويعتبر بعض أولئك أن احتلال فلسطين من معطيات فن الواقع السياسي بل الأشد غرابة أن بعض مثقفينا العرب يعتبرون الشاعر اليهودي العنصري النجس "أفرايم سيدون" من رموز الحداثة وهو الذي يقول من قصيدة له: ((من أنت أيها الطفل الفلسطيني..؟ ومن أنتِ يا جثة المرأة الحامل..؟ أمام "مناحيم" الفارس العبري.. الممسك بالتوراة.. القائل بعون الله..)) انتهى انتبهوا إلى "الممسك بالتوراة". أي والله بعض توافه الحداثة يعجبون به كأحد رموز الشعر الحديث.. دعونا من هذه المنغصات، والمنكدات ولنعد مرة أخرى إلى قول الشاعر: لتَقَرعنّ عليّ السّنَ من ندمٍ .. إذا تّذكرتَ يوماً بعضَ أخلاقي.. ولقد يعترض أيضاً معترض ويقول: هل الأخلاق والسجايا الحميدة مما يذهب إلى البطن؟ أم إلى الرأس والقلب..؟ وأقول: إنه اعتراض وجيه، فهذه الأمور مصدرها العقل والفؤاد، لا البطن والمعدة.. مع أنني أعود وأتشبث برأيي – ولست أدري لماذا جاءت كلمة "تشبث" فهي تذكرني "بالشبث" وهو العنكبوت لأنه يتشبث بخيوطه كما يتشبث بعض الموظفين البؤساء بوظائفهم خوفاً من غائلة الجوع... نعم أعود وأستدرك وأقول صحيح ان الأخلاق والقيم في الرؤوس والقلوب... ولكن هل يعيش رأس بدون غذاء..؟! وهل ينبض قلب بلا أكل..؟! فالأكل هو مصدر الطاقة، وبناء البدن أليسوا قد علمونا ونحن صغار:(بأن العقل السليم في الجسم السليم..؟!) ومن ثم فإننا نعود مرة أخرى إلى سبب قرع السن وعض الشفاه.. فمن المؤكد أن مرد ذلك هو الأسف والندم على فقدان الأكل، أي على فقدان الطاقة أو على مصدر الطاقة الذي خسره، والذي لم يعبأ به أو يحافظ عليه ويستغله كما يجب... وعلى هذا إن صحت هذه النظرية فإن كثيراً ممن ترونهم هُتْماً بلا أسنان أو ممن اضطروا إلى زراعة أسنان، فإن مرد ذلك هو كثرة قرع أسنانهم ندماً على ما فرطوا فيه..!! وقبل الختام أيها السادة لديّ سؤال دائماً يقرع رأسي بعنف وهو: إلى متى يا ترى سيظل العرب يقرعون أسنانهم بسبب ما فرطوا فيه من سياسة وكرامة.. ومن زمن وعمر.. ومن ثروة ووطن وطاقة..؟ لست أدري ولكنني أخشى أن يولد أطفال العرب يوماً بلا أسنان...