للمرة الألف، أقول وأكرِّر وأحذر.. من أننا في مصر كدولة ومؤسسات نقوم فقط بمواجهة الإرهاب والإرهابيين، كأشخاص وسلوك، وليس كـ"عقيدة" و"أفكار" تسري وسط المجتمع انتشار النار في الهشيم. الجيش والشرطة كمؤسسات ردع وإنفاذ قانون، لا تكفي وحدها، سكوت المجتمع وقبول بعض المحسوبين عليه لهذا التطرف البذيء والمخجل، يدعونا فوراً لمراجعة الأداء "الخجول" والمتواضع للمؤسسات الدينية والفكرية في اتخاذ ما يلزم على الأرض في هذه الحرب الشرسة، والاعتقاد بأن مجرد البيانات والشعارات والخُطب غير المجدية يكفي كنوع من المشاركة في العبء الثقيل. لن أتحدث عمّا يجري في شمال سيناء باعتبارها ساحة معركة حقيقية، ولن أتحدث عن تورط بعض البدو من أصحاب المصالح سواء من المهربين أو تجار المخدرات وغيرهم في احتضان عناصر الإرهاب والتكفير والتطرف، وتوفير الملاذ الآمن لهم، كجزء انتقامي من الدولة التي أوصدت أبواب التجارة المحرمة بوجوههم، لأن هذا معروف لدى الدوائر الأمنية. ولكن التساؤل حول وجود كثير من المراهقين، من غير أصحاب أي قضية وسط هذا المناخ الإرهابي، خاصة وأن غالبيتهم ممن هم تحت سن الثامنة عشرة ـ وفق بيانات الأجهزة المختصة ـ ويشكلون شريحة "غاضبة" بالتأكيد تعتبر قاعدة لوجستية يستغلها هؤلاء الإرهابيين في المراقبة وجمع المعلومات وربما في تنفيذ العمليات الإرهابية التي تستهدف رجال الشرطة والجيش في شمال سيناء بهذا الشكل المروِّع والمحزن الذي يشي بوجود شيء من ظاهرة "الدعشنة" غير المباشرة التي نعاني منها وندفع ثمنها. هذه "الدعشنة" هي التي تجلت بغرابة في حادث الشرابية الأخير، قبل يومين، فتعيدنا إلى ذات السلوك الداعشي الذي قامت به جماعات متطرفة قبل سنوات في قلب مدينة السويس، وخلال سيطرة فكر الإخوان وتيارات الإرهاب السلفي، وتسببت في مقتل شاب كانت كل جريمته أنه يمشي مع خطيبته في الشارع، بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مشهد جريمة الشرابية، والذي قام فيه بعض البلطجية، بقطع كفِّ يَدِ شاب في عرض الشارع لمجرد أنه سرق جهاز محمول، وادعاء تطبيق "حد الله" في السارق، بعد معركة بين عائلتين غالبيتهما مسجلين خطر، أي ليس لهما في الدين أصلاً.. فأي دين هذا الذي تكون فيه مسجلاً خطراً و"صاحب سوابق".. ثم تدعي تطبيق شرع الله بالقوّة، دون أي اعتبار لقانونٍ أو لدولةٍ أو لأي عرف إنساني أو أخلاقي. كل هذا يجعلنا حقيقة في خطر شديد اجتماعياً، لأن معنى إقدام أي شخص على أخذ ما يعتبره "حقه" بيده، وبهذا الشكل المفزع، يدق لنا ناقوس إنذارٍ لا يعيدنا إلى المربع صفر أمنياً فقط، ولكن إلى متاهة تبرير العنف والجريمة باسم الدين واحتكار تطبيق "شرع الله" افتئاتاً على سلطة الدولة والقانون. "الدعشنة" السلوكية في الشارع، وبهذه الطريقة التي ـ حتى الآن على الأقل ـ لم أجد استنكاراً لفظياً لها من قبل مؤسساتنا الدينية، لا تختلف كثيراً عن "الدعشنة" الأخلاقية، التي جعلت ذئباً بشرياً مجرماً في الـ35 من عمره، يقدم على اغتصاب طفلة البامبرز التي لا يتجاوز عمرها العامين في إحدى محافظات الدقهلية.. وهي في رأيي جريمة لا تقل إرهاباً معنوياً ونفسياً عن جرائم الإرهاب الدموي المعتادة والمعروفة. جريمتا الشرابية والدقهلية وقبلهما السويس، أبلغ تعبير عن خطورة الأفكار الإرهابية الحقيقية التي تضرب عمق النسيج الوطني الاجتماعي في مقتل، وكلهم يشكلون ـ ولو بشكل غير مباشر ـ امتداداً نوعياً لمعنى الإرهاب الفكري في أبرز أزماته الإنسانية والأخلاقية والمجتمعية، ويضع كل مؤسساتنا الدينية في مأزق العقم في التصدي أو المواجهة، ويكشف لنا المنحدر الذي نهوي إليه بفعل تيارات الإسلام السياسي العفنة بقيادة جماعة الإخوان وتيارات السلف الفاسد في عصرنا الحديث. كفانا كلاماً وخطباً ومواعظ لا تفعل شيئاً، وكفى كل مشايخنا وعلماء ديننا كلهم هذا النموذج الفارغ من الدعوة التي لا تغير سلوكاً على الأرض، وكفى كل خطبنا العصماء كل هذا الهراء. المواطن البسيط يحتاج القدوة الحسنة من رجالٍ حقيقيين يعرفون معنى وقيم التجديد الديني، غير هذه النماذج التي تبيح زواج القاصرات، وتبرِّر التحرش بدعوى عدم الحشمة أو لبس النقاب، وتستغل سذاجة البعض لتشجيع المبطن للجريمة عبر فتاوى مضللة ومجتزأة تختزل الدين في شيخ يدعو للفضيلة بينما يتورط في فضيحة أخلاقية وجنسية، وقبل هذا أو بالتزامن معه، دولة تفرض قانونها الحازم والحاسم وتضرب بيدٍ من حديد قبل أن نتحول في شوارعنا إلى "داعشيين" جُدُد لا نحتاج إلى لقطة مظهرية برفع علم "داعش" الإرهابي.. لأننا نرفعه في سلوكياتنا وتصرفاتنا المخجلة والمؤسفة. اللواء عبدالحميد خيرت رئيس المركز المصري للبحوث والدراسات الأمنية ونائب رئيس جهاز أمن الدولة الأسبق