أعطى مالك بن نبي نظريته في الحضارة صفة الثبات والجزم والنهائية، ونظر إليها، وتعامل معها، وفق هذه الرؤية، ومن الإشارات الدالة على ذلك، ما ورد في كتابه (تأملات) بعد أن حدد معادلته الشهيرة= حضارة إنسان+ تراب+ وقت- قوله: ومن هذه المعادلة النهائية، يمكن أن نستنتج استنتاجات نظرية مختلفة تدل أولا على أن الحضارة ليست أساسا تكديس منتوجات حضارية، بل هي بناء مركب اجتماعي يشمل ثلاثة عناصر فقط، مهما كانت درجة تعقيدها كحضارة القرن العشرين. ويكشف عن ذلك أيضا، محاولة ابن نبي التعبير عن نظريته بطريقة المعادلات الرياضية، والاستعانة المستمرة بما يسميه مسلك التحليل الكيمائي في توصيف النظرية وتحليلها والبرهنة عليها، كما يكشف عن ذلك أن ابن نبي منذ أن أشار إلى نظريته في كتابه (شروط النهضة)، الصادر في أواخر أربعينيات القرن العشرين، بقت هذه النظرية على حالها من دون تغير أو تبدل، ومن دون تطور أو تجدد، وكأنها نظرية ثابتة وجازمة ونهائية. وإذا كان ابن نبي لديه هذه الدرجة من الموثوقية الجازمة بنظريته، ما كان عليه أن يعبر عنها بهذه الصفة، ويتعامل معها بهذه الطريقة غير المفضلة وغير المحبذة عادة عند الباحثين والدارسين في حقل الدراسات الاجتماعية والإنسانية، فهذه الطريقة تضر بالنظرية ولا تخدمها، لأنها تجعل منها كما لو أنها نظرية مغلقة وجامدة وساكنة على نمط النظريات الرياضية والطبيعية، وتسلب منها صفة الحركة والتطور والفاعلية. علما أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يظهر فيها ابن نبي هذه الدرجة من الموثوقية الجازمة تجاه أفكاره ونظرياته، فقد أظهرها وأعلن عنها أيضا عند حديثه عن العناصر الأربعة المركبة للثقافة، معتبرا أنها تمثل تمامية ونهائية البحث والحديث عن الثقافة والمكونات المركبة لها. وبصورة عامة، يمكن اعتبار أن هذه الموثوقية الجازمة، تعد أحد ملامح المنهج وطريقة النظر عند ابن نبي في التعبير عن أفكاره ونظرياته، وفي التعامل معها. ومن جانب آخر، إن هذه النظرية منذ أن عرفت في خمسينيات القرن العشرين، ومع كل الاهتمام والتفاعل الحاصل معها في النطاق العربي خاصة، وبعد ما يزيد على أربعة عقود من وفاة ابن نبي، مع ذلك يمكن القول إن هذه النظرية بقت على حالها، من دون أن يحصل فيها تغير أو تحول، تطور أو تجدد، كميا أو كيفيا، أفقيا أو عموديا، تحليليا أو نقديا، وما زالت هذه النظرية إلى اليوم على هذا الحال الساكن والجامد. والذين جاؤوا بعد ابن نبي من تلامذته ومتابعيه باحثين وأكاديميين، جزائريين وعرب، تعاملوا مع هذه النظرية في حدود الشرح والتعريف، الثناء والتبجيل، الدفاع والتصويب، وهذه الطريقة لا تخدم النظرية على المدى البعيد، وتؤدي مع مرور الوقت لإصابة هذه النظرية بحالة الجمود والسكون، وفقدان عنصر الفاعلية والحركة. والذين يعرفون هذه النظرية، يعلمون أنه لم يظهر أحد من بعد ابن نبي نهض بدور أسهم في تحريك هذه النظرية، لا من جهة التتميم والتكميل، ولا من جهة التحريك والتفعيل، ولا من جهة التغيير والتحويل في وجهتها وصورتها، ولا من جهة إعطائها بعدا وأفقا جديدا، ولا من أي جهة أخرى. ومن الناحية التاريخية، لم يسجل في تاريخ هذه النظرية طورا جديدا في مرحلة ما بعد ابن نبي، طورا يحدث نقلة في حركة هذه النظرية، بشكل يمكن أن يؤرخ له في تاريخ تطور هذه النظرية، وهذا ما لم يحدث حتى هذه اللحظة، وبقت هذه النظرية تعرف وتحدد في نطاق ابن نبي لا غير. وهذه ليست مشكلة نظرية ابن نبي فحسب، وإنما هي مشكلة عموم النظريات التي ظهرت وتظهر في المجال العربي المعاصر، الذي لا يعطي النظريات فرصة حيوية وكبيرة في أن تتطور وتتجدد، بسبب غلبة حالة التراجع والجمود. almilad@almilad.org