زفة في الكيان الصهيوني ومزايدة واتهامات بين نتنياهو من جهة وخصومه من جهة أخرى، بشأن وثيقة كشفها الصحفي الإسرائيلي ناحوم برنياع بعنوان "مشروع وثيقة مبادئ حول الوضع الدائم"، تم التوصل إليها عام 2013 إثر مفاوضات سرية في لندن بين كل من مبعوث نتنياهو المحامي إسحق مولخو ورجل عباس حسين آغا (أكاديمي بجامعة أوكسفورد). إذ يعاير ليبرمان وبينيت نتنياهو بالتنازلات "الرهيبة" التي قدمها في الوثيقة، بينما يرد هو قائلا: "وثيقة التنازلات هي استعراض عابث اعترضت عليه" (لاحظوا كيف سمّاها وثيقة تنازلات؟!). وحين خشي نتنياهو من تأثيرها على فرصه في الانتخابات، خرج مساء الأحد (8 مارس/آذار) بتصريح أعلن فيه التخلي عن حل الدولتين، والتوقف عن أية انسحابات جديدة. تستحق الوثيقة (وثيقة مولخو/آغا) تبعا لذلك أن يطلع المواطن الفلسطيني على مضمونها لكي يرى أية تنازلات "رهيبة"!! قدمها نتنياهو، وتستحق تبعا لذلك أن تتحول إلى دليل اتهام له من قبل الأكثر يمينية في المعسكر الصهيوني، ولكي يدرك تبعا لذلك أي عبث يمارسه عباس إذ يعدهم بأنه سيحصل من خلال المفاوضات على دولة كاملة السيادة على حدود عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية، مع عودة اللاجئين!! دعونا هنا نستعرض الوثيقة حسبما كشفها "برنياع"، لنرى أنها لا تختلف كثيرا عن وثيقة جنيف لصاحبها ياسر عبد ربه وأصحابه، والتي أنجزت أيضا بمباركة من عباس، وتكاد تتطابق مع عرض كلينتون/باراك في قمة كامب ديفد صيف عام 2000. هدف المفاوضات بحسب الوثيقة "هو الوصول إلى إنهاء المواجهة وكل الادعاءات...، وهما متفقان على أن المسائل المتعلقة بالوضع الدائم يجب أن تتعاطى مع الاحتياجات الشرعية للطرفين بطريقة عملية ونزيهة تسمح بتأييد جماهيري. وهما شريكان في الرؤية التي تتحدث عن دولتين للشعبين، مع حقوق دينية متساوية وبلا تمييز تجاه أي طائفة عرقية أو دينية". ويتحدث البند الثاني عن "الأراضي الإقليمية، الحدود والمستوطنات"، وهنا "يتفق الطرفان على أن تكون لإسرائيل وفلسطين حدود دائمة الواحدة مع الأخرى، وتكون لفلسطين حدود دائمة مع الأردن ومصر. الحدود بين إسرائيل وفلسطين ستكون على أساس خطوط 67 مع تبادل للأراضي متفق عليه، يأخذ بالحسبان التطورات المتأخرة. وستقرر الاعتبارات العملية والواقع على الأرض حجم ومكان الأراضي المتبادلة". في هذا البند المتعلق بالأرض والمساحة تنهض قضية التبادل بوصفها الأكثر أهمية، ولا بد من القول إن تبادل الأراضي يعني ببساطة بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة في عمق الضفة؛ وهي التي تفتت الكيان الفلسطيني إلى كانتونات، وتأكل أفضل الأراضي ومصادر المياه. ثم تقول الوثيقة: "يتفق الطرفان على أن تكون فلسطين دولة مستقلة وذات سيادة في أرض قابلة للحياة (لو كانت حدود 67 بالفعل فما الداعي لحكاية قابلة للحياة هذه؟!) تساوي في حجمها المساحة التي كانت تحت سيطرة مصر والأردن قبل الرابع من يونيو/حزيران 1967 (الحجم شيء والنوع شيء آخر)؛ ويكون أمن إسرائيل مضمونا" (سيترتب على ذلك وجود محطات إنذار مبكر وسيطرة على الأجواء بطبيعة الحال، وإن لم يُذكر ذلك). " تستحق وثيقة مولخو/آغا أن يطلع المواطن الفلسطيني على مضمونها لكي يرى أية تنازلات "رهيبة"!! قدمها نتنياهو، وتستحق تبعا لذلك أن تتحول إلى دليل اتهام له من قبل الأكثر يمينية في المعسكر الصهيوني، ولكي يدرك تبعا لذلك أي عبث يمارسه عباس الذي يعدهم بأنه سيحصل من خلال المفاوضات على دولة كاملة السيادة على حدود عام 1967 " ثم تقول الوثيقة: "يتفق الطرفان أيضا على ارتباط آمن بين الضفة وغزة"، وهذا معروف، لكنها (الوثيقة) تعاود التأكيد على أن "احتياجات إسرائيل الأمنية تكون مضمونة ضمن أمور أخرى من خلال: دولة فلسطينية مجردة في الضفة وفي غزة مع قدرة أمنية قوية، التعاون بين قوات الأمن في المعلومات وفي الأعمال الميدانية، فلسطين لا توافق على مرابطة قوات أجنبية في أراضيها، ولا توقع على معاهدات دفاع مع دول أخرى، يكون انسحاب كامل على مراحل لقوات إسرائيل من أرض فلسطين. القوات الإسرائيلية الأخيرة يتم إخلاؤها عندما تنفذ المرحلة الأخيرة من الاتفاق (إنه مسلسل أوسلو من جديد)". بعد ذلك وطبعا لأغراض الكيان الصهيوني الأمنية، يتحدث الاتفاق عن إمكانية تأجير غور الأردن لفترة زمنية محدودة (هنا تتبخر حدود 67). وبعد فترة التأجير (إذا انتهت طبعا وهي لم تحدد) ينشأ "نظام خاص لمدىً طويل يقام على جانبيْ نهر الأردن. ويبقى النظام الخاص إلى أن تقرر كل الأطراف أن الظروف تبرر التغيير. الموقف من مسألة القدس في الاتفاق -حسب برنياع- "عام وحذر". وفيه: "كل حل يجب أن يتعاطى مع الارتباطات التاريخية والدينية والثقافية والعاطفية للشعبين بالمدينة، وحماية الأماكن المقدسة". هكذا تتساوى الحقوق اليهودية مع الإسلامية في شرقي المدينة، رغم أنها للتذكير محتلة عام 67. وتضيف الوثيقة: "توجد ثلاثة وجوه لمسألة القدس: أرض إقليمية، وحكم، وأماكن مقدسة. كجزء من التقدم إلى حل النزاع، يمكن للطرفين أن يتعاطيا مع أمانيهما بالارتباط بالمدينة، شريطة ألا يعاد تقسيمها". يعني في الخلاصة لا عودة للقدس، فهي باقية دون تقسيم كما يعلن نتنياهو ليل نهار، وكل ما سيحصل عليه الفلسطينيون هو الحقوق الدينية. فبماذا يختلف هذا عن عرض كلينتون/باراك في قمة كامب ديفد صيف عام 2000، وعن وثيقة جنيف لصاحبها ياسر عبد ربه؟! عن اللاجئين تقول الوثيقة: "الحل سيكون عادلا، نزيها وواقعيا (الأهم واقعيا). وهو ملزم بأن يستجيب للهدف المشترك -دولتين للشعبين- وفي نفس الوقت يتطلب حساسية تجاه مصادر القلق الأعمق للطرفين". ثم "يعد الاتفاق اللاجئين برد كرامتهم لهم، ويعدهم بحياة جديدة وطبيعية؛ ويعد الإسرائيليين بألا تستغل مشكلة اللاجئين لمواصلة النزاع أو لتغيير الطابع اليهودي للدولة". والخلاصة لا عودة للأراضي المحتلة عام 48. وفي التفصيل "كيف يتم ذلك؟ هناك عدة خيارات. أحدها يتحدث عن الاعتراف بمعاناة اللاجئين وإعادة توطينهم في فلسطين (مناطق 67) وفي دول ثالثة، بمساعدة دولية. يقام صندوق دولي لمعالجة ادعاءات الأملاك والنفقات المترتبة على إعادة التوطين. وتساهم إسرائيل بنصيبها في الصندوق. كما ستعمد الدول العربية هي الأخرى إلى المساهمة". والخلاصة هي توطين وتعويض، مع قلة لمناطق الدولة العتيدة، ولا أحد لأراضي 48 إلا على أسس فردية (جمع شمل العائلات) كما يرد في موضع آخر، لكن حسين آغا يطالب بصيغة أكثر إلزاما، ولا يستجيب مولخو. " يبقى من الضروري التذكير هنا بوثائق التفاوض التي كشفتها الجزيرة قبل أربع سنوات، وفيها من التنازلات ما يقترب من هذه الوثيقة (أعني التنازلات الفلسطينية)، ولم ينكرها صائب عريقات في حينه، حتى لا يخرج أحد فينكرها الآن " مقابل هذه الصيغة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين مع أنها لا عودة فيها، هناك في مشروع الاتفاق تناول أيضا للاجئين اليهود الذين وصلوا إلى إسرائيل من البلدان العربية. وهنا ينص الاتفاق على أن "مطالب اليهود الذين هربوا أو طردوا من البلدان العربية ونفقات إسرائيل في استيعابهم تتطلب معالجة. وتعتزم الولايات المتحدة قيادة الجهود الدولية في هذا الموضوع، بما في ذلك دعوة الدول العربية للتبرع من أموالها". والخلاصة هي أنهم سيحصلون على أموال تعويض لليهود أكثر مما سيدفعون تعويضات للاجئين الفلسطينيين (ستجري مقاصة على الأرجح ترجح كفة الحقوق الصهيونية)!! لا جديد يذكر عما توفر في مفاوضات كامب ديفد عام 2000، وعرض كلينتون، ولا خلاف يذكر عما ورد في وثيقة جنيف السيئة الذكر، ومع ذلك يعتبر خصوم نتنياهو أنه قدم "تنازلات"، بينما هو ينكر ذلك. وهو صادق في ذلك للأمانة، حيث لخص الأمر بقوله لأعضاء الليكود: "لم أوافق أبدا على تقسيم القدس، لم أوافق أبدا على العودة إلى خطوط 67، ولم أوافق أبدا على الاعتراف بحق العودة، أو التنازل عن وجودنا في غور الأردن". حتى نفتالي بينيت -وهو خصم نتنياهو، ومعني بتشويهه عشية الانتخابات- لخص الوثيقة بقوله: "رئيس الوزراء تقدم -تحت ضغط شديد من الإدارة الأميركية- بعرض لأبو مازن، أساسه عودة إلى خطوط 67 مع تبادل للأراضي، تأجيل موضوع القدس واللاجئين إلى موعد لاحق، عدم إزالة المستوطنات اليهودية بل نقلها إلى السيادة الفلسطينية (لا يشمل ذلك الكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى)، أو الإخلاء الطوعي مع التعويضات. نعم، هذه هي الحقائق". أما دينيس روس -الذي كان الوسيط بين الطرفين، وعلى صلة بمفاوضات مولخو/آغا- فقال لصحيفة "إسرائيل اليوم": "نتنياهو لم يوافق على حدود 1967 وتقسيم القدس وحق العودة". يبقى من الضروري التذكير هنا بوثائق التفاوض التي كشفتها الجزيرة قبل أربع سنوات، وفيها من التنازلات ما يقترب من هذه الوثيقة (أعني التنازلات الفلسطينية)، ولم ينكرها صائب عريقات في حينه، حتى لا يخرج أحد فينكرها الآن. أي طريق يسلكه محمود عباس في ضوء ذلك كله؟ وبماذا يعد شعبه مقابل مطالبته بالاحتفال بالتنسيق الأمني مع العدو، والإدمان على التفاوض، والتعويل على الضغط الدولي؟! دعك هنا من تفاوضه السري كما تؤكده هذه الوثيقة، بينما يعلن أن المفاوضات متوقفة لأن الاستيطان لا يتوقف!! القضية في تيه مقيم مع هذا الرجل، ومن دون أن يرحل ستبقى القضية في ذات التيه، وبانتظار أن يفجِّر الشعب انتفاضته المنتظرة ضد السلطة التابعة وضد الاحتلال في آن.