كان الحديث يدور حول أطفال مرض التوحد الذين أصبح عشرات الآلاف من أطفال الوطن وناشئته وشبابه يعانون منه، وتلجأ أسرهم إلى مراكز في دول عربية لاحتضانهم برسوم تصل إلى خمسين ألف ريال في العام بالنسبة للطفل الواحد؛ بهدف تأهيلهم ولو جزئيا للتعامل مع الحياة والأحياء، وكان من ضمن الحضور رجل تربية وتعليم متقاعد منذ سنين، فسمعناه يهتف قائلا: الله يسامحنا!، فلما لاحظ تعجبنا من جملته وتعليقه على ما سمعه من حديث وتفاصيل حول الأطفال التوحديين شرح ما أراده بعبارته قائلا: إن هذا المرض قديم، ولكن الأطباء لم يعرفوه ويكتشفوا حقيقته على مستوى العالم إلا قبل ثلاثة عقود، كما أنه لم يصبح حديث المجتمع في بلادنا إلا قبل أقل من عقدين، وحيث أن الطفل التوحدي يبدو في شكله الظاهري طفلا عاديا بصورة عامة، ولم تعرف الأسر التي لديها أطفال يعانون من التوحد بمرضهم، ناهيك عن معرفة المعلمين بذلك، فإن بعض أولئك الأطفال المساكين كانوا يعاقبون على تصرفاتهم وعدم تجاوبهم مع ما يصدر لهم من توجيهات من قبل والديهم ويعدون ذلك تمرداً غير عالمين أن مرضهم التوحد يفصلهم عن الواقع، فإذا أدخل الطفل منهم المدرسة ولم يتجاوب مع شرح المعلم وتوجهاته وبخه بقوله: يا بليد، هذا إن لم يعاقبه بدنيا على عدم تفاعله مع الدرس، والمسكين يتألم ويعاني، ولكنه لا يستطيع تحقيق ما يطلبه منه معلمه، ولذلك هتفت قائلا: الله يسامحنا لأنني تذكرت حالات مرت علي خلال عملي معلما قد تكون لأطفال توحديين كنا نشبعهم توبيخا وضربا ظنا أن ذلك سوف يدفعهم إلى الجد والاجتهاد، ولم يدرك المجتمع من أسرة ومدرسة وأقارب وجيران حقيقة معاناة الأطفال التوحديين إلا في السنوات الأخيرة، ومع ذلك تركت الأسر التي تعاني من وجود أطفال توحديين لديها تعاني هي الأخرى معاناة شديدة ومؤلمة من التعامل معهم في غياب اهتمام رسمي وشعبي بهم، بل إن المقالات الصحفية التي تدعو للتضامن والتكاتف مع تلك الأسر وإيجاد حلول عملية لمساعدتهم على مواجهة حالات أطفالهم التوحديين هي مقالات نادرة جدا ولا تلامس عمق المشكلة ولا تبرز حجمها، ولا يوجد ما يؤكد أنها أدت إلى تفاعل حميد يشعر تلك الأسر أننا معها في مأساتها، وأن هناك اهتماما بها، وأنه توجد نية لبناء مراكز في كل مدينة أو منطقة لاحتضان الأطفال التوحديين، فلا شيء حصل من ذلك ــ للأسف الشديد. وبالمناسبة، فقد عرضت إحدى الفضائيات برنامجا عن توحديين بلغوا سن الشباب في أمريكا، مروا ببرامج تأهيل جعلتهم قادرين على الالتحاق ببعض الأعمال البسيطة، وأن صاحبة مطعم ترددت في تشغيل شاب توحدي، ولكنها وجدت بعد تشغيله أن البرامج التي خضع لها ذلك الشاب جعلته قادرا على التفاعل مع محيطه وأداء عمله بشكل مرضٍ، واعتبرت مساهمتها في تشغيله جزءا من واجبها الاجتماعي، ولذلك فلا أجد ما أختم بهم مقالتي هذه سوى ترديد العبارة التي هتف بها أخونا المعلم: الله يسامحنا!.