حسب ما أثبتت كل الوقائع السياسية في منطقتنا عبر التاريخ من أن حدوثها فعليا على أرض الواقع لم يكن ليتمَّ لولا أن كان هناك تجهيز فكري لها في المجتمع الذي تحصل فيه وبعدة أساليب، يظهر أولها أسلوب الاستغلال الديني بمطمع تسييسه لأجل أهداف الدول المشتركة في تلك الأحداث؛ باستغلال الجانب الثقافي والتوعوي والعاطفي للمجتمعات تجاه الدين. في الوطن العربي عموما والسعودية تحديدا، كان الدين الإسلامي والمجتمع المعتدل ضحية أهداف، هم منها براء، واستعمل الغرب، والفرس فيها تحديدا، معتنقي هذا الدين وأبناء هذا المجتمع العربي لاستهداف الأرض والعقل ولا غيرهما أبدا.. لن أتكلم عن أحداث لم أعشها فعلا، حتى وإن كنت قد عرفت وأدركت حيثياتها ومآلاتها، ولكن سأتحدث عن أمثلة جوهرية حدثت في عصرنا الجديد. كانت أحداث 11 سبتمبر هي التطبيق العملي الأوضح للتنظيرات الأساسية لـ«القاعدة»، باستعمال السعوديين تحديدا في تفجير برج التجارة الأميركي لصنع تلك الفجوة الملتهبة في عمق العلاقات السعودية الأميركية المنتعشة حينها، وهو ما نجحوا فيه فعلا بمعاونة الإعلام الأميركي المتأجِّج بكُره كل ما هو إسلامي المعتدل منه والمتطرف، باعتبار أن السعودية حاملة لواء الإسلام «المعتدل» طبعا، في حين كان تنظيم القاعدة ينشط في تجنيد الشباب السعودي وتدريبه على الفكر التكفيري وكُره الحكومة السعودية وتكفيرها وقتال رجال أمنها وكل من لا يعتنق دين الإسلام، وقتال كل مسلم يتعامل مع غير المسلمين، مع إسقاط مبدأ «الاستئمان» لأهل الكتاب الذي جاءت به تعاليم الدين الإسلامي النقيّة.. كان الدرس قاسيا، لكن أحيانا يجب القول بأننا كنا في حاجة ماسة لـ«قرصة أذن» حقيقية، نعود من خلالها إلى واقع مجتمعنا الديني والتوعوي والاجتماعي، فمنذ حرب الخليج الثانية وتلك الفترة التي عملت فيها الدولة «رسميا» على مجابهة فكر الإسلاميين المتشدين، وتحديدا الإخوان المسلمين، وأحيانا حراكهم المناهض لسياسات الدولة بقيادة سفر الحوالي وسلمان العودة لم تتفتح عقول الشباب على توجهات معتدلة في الغالب تخدم الصالح العام وتقلل من فرضيات زيادة نسبة التخلف العقدي أولا ثم المعارضة للحكومة ثانيا، بل كانت كل المؤشرات تدل على نشوء فكر جديد تولّد من المنهج الإخواني العدواني والمتشدد، وهو فكر متطرف خارجي لا يعترف إلا بالقتل وسيلة للتعامل مع الحكومة الشرعية، معيدا للأذهان ذلك المزيج الذي صنعه «اخوان» التسعينات الهجرية في زمنهم؛ ما بين تخلف ديني ناتج عن جهل شائع في ذلك الزمن، وتطرف عقائدي تولّد من ذلك الجهل قاد إلى سهولة التأثير على المجتمع لمعارضة توجهات الحكومة علنا ومبارزتها في أطهر بقاع الأرض، أخذا بالاعتبار مع كل ذلك أن الكلمة العليا والتأثير الأقوى على المجتمع العامّي كانا للمتشددين الإسلاميين، الذين ظهر نجمهم مع عصر التخلف والبداية الخجولة لظهور الجيل المثقف على السطح عبر الإعلام، فكانت النتيجة ما طرق مسامعنا ورأته أعيننا. ومن هنا، تظهر لنا الخلاصة في أن الجدية في المحاربة الحكومية الرسمية للأبعاد الفكرية لهذه التوجهات المتشددة والمتطرفة كانت موجودة، ولكن «بعض» المنفذين أفقدوها الاستمرارية بالنسق نفسهالذي بدأت به، (لا علينا فقد انتهى ذلك). فدققت الدولة أولا في المناهج التعليمية وأبعدت المتشددين عن المشاركة في تأليفها، وأعادت طباعة كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ونشرته على أوسع نطاق في قطاعات التعليم الابتدائي والمتوسط الأهلي والحكومي، كما راقبت منابر خطب الجمعة وشددت على تحديد مواضيع بعض الخطب في فترات الحوادث والأزمات التي ينفذها المتطرفون، كما عملت الدولة «بوضوح» على تصفية أرباب الفكر الخارجي باعتقالهم غالبا، بالإضافة إلى إنزال أصحاب الفكر المتشدد عن مكانتهم الاجتماعية التي اكتسبوها. لكن ولعوامل تراجع واضمحلال دور المؤسسة الدينية الرسمية بالإضافة إلى الضغط الخارجي سياسيا واجتماعيا ومع ظهور وسائل الإعلام والمعرفة السريعة نجح الإرهاب في أن يبزغ نجمه حول السعودية مجددا باستخدام السعوديين أداة بشرية رئيسة في تنفيذ مخططات إرهابية مسيسة؛ باستعمال تعاليم إسلامية متشددة، أربابها أولئك الذين حاربتهم السعودية في الداخل منذ عقود من الزمن وهزمتهم كثيرا.. فـ«داعش» و«جبهة النصرة» في العراق وسوريا، هي اليوم شكل من أشكال الإرهاب، ينشط فيها السعوديون كغالبية عظمى، يكفّرون الدولة السعودية بكل طوائفها؛ حكومة يعدونها طاغية، وشعب رضي بالحكومة، وجنود يحمون الأرض.. وبغض النظر تماما عن كل الأبعاد السياسية الحقيقية لهذه التنظيمات واستهدافها الأفراد السعوديين، فإنه يجب الاعتراف بحجم كبير من الأخطاء واللوم على رجال الدين والثقافة والتأثير الاجتماعي، مما أدى إلى هذه النتائج المريبة والمؤلمة في واقعها التي تحمل في مظهرها الخارجي بوادر مستقبل غامض يهدد سلمنا الاجتماعي ووعينا الديني: 1 الاعتراف بتراجع المؤسسة الدينية الرسمية منذ فترة طويلة، فاتحة المجال أمام ظهور تيارات عقدية تضاد التيار الوهابي السلفي الذي تنتهجه الدولة.. وبعد كلمة خادم الحرمين الأخيرة في هذا الشهر الأول من أغسطس لعلماء المؤسسة الدينية الرسمية، فإنه يجب العمل على إعادة رفع مستوى مواجهتها للفئة المتشددة والتيارات الدينية المتطرفة والخارجية، وليس الاكتفاء بإصدار الفتاوى فقط.. 2 الاعتراف بفداحة تأثير الانقسام إلى تيارات (متشددة معتدلة ليبرالية) ساهمت في تشتيت أفراد المجتمع الواحد، ثم ظهور تحزبات وتوجهات أكثر تفرعا وتخلفا ارتبطت أحيانا بأهداف خارجية.. ويجب العمل اجتماعيا وإنشاء بذرات ثقافية عميقة ترفع من المستوى الثقافي والتوعوي للتمسك بمبدأ الدين والوطن أولا حتى الخروج من هذه الأزمات المحدقة.. 3 ضعف المؤسسة الإعلامية الحكومية، وأحيانا سيطرة بعض المتشددين ممن ينفذون بوضوح التعاليم «الإخوانية» عليها، وعدم قدرتها عموما على المساهمة في صنع خطاب إعلامي حكومي قوي ينبذ كل ما من شأنه زيادة هوة التفرق في المجتمع وطوائفه المتعددة.. وأرى أنه يجب العمل على إعادة هيكلة المؤسسة الإعلامية ومراجعة طريقة إدارتها ومنهجية عملها ووضع الخطط التي تهدف إلى التأثير ولا غير التأثير على المجتمع الذي بدأ ينفتح على الإعلام السريع والثقافة العامة والقراءة المتوسعة، لكن غالبا بمسار غير متزن.. فما زال هنالك أيضا مثقفون «سيئون».. 4 بكل أمانة: تراجع ملحوظ في الأداء الحكومي بحسم القضايا الاجتماعية الثائرة، التي من شأنها التأثير على السلم الاجتماعي ونشوء فئات كثيرة معارضة.. يجب العمل على حسم وإغلاق هذه القضايا الشائكة بما يضمن عدم إثارة الرأي العام بها، في الوقت الذي يحتاج المجتمع الداخلي إلى الهدوء والاستقرار على توجه واحد يتوافق مع ما تراه الدولة. غازي الحارثي رابط الخبر بصحيفة الوئام: الموقع السعودي بين التطرف والتشدد