بعد أن كتبت هنا مقالة عن مأساة تهجير المسيحيين في الموصل، وجه لي أحد القراء تساؤلا عبر «تويتر» مستنكراً فيه «تجاهلي» مأساة السنة في البصرة المشابهة لمأساة المسيحيين في الموصل حسب توصيفه. وبعد أن كتبت الأسبوع الماضي مقالة عن أطفال سوريا، علق أحد الشعراء والمثقفين العراقيين الكبار، الذي أكن له قدراً كبيراً من الاحترام والتقدير اللذين هو جدير بهما، عبر حسابي في «فيسبوك» معاتباً لعدم التفاتي لأطفال العراق وما عانوا منه وما يعانونه من جراء ما بات معروفا لدى الجميع من حروب متتالية وحصار ظالم وحالة عدم استقرار شبه دائمة. وحين التقيت بأحد الأصدقاء المقربين مؤخراً، حرضني بشكل صريح على ترك الكتابة في الشأن العام، والابتعاد عن كل ما يمت للسياسة بصلة، لأن ذلك لن يجلب لي سوى المتاعب، ولأنني لن أستطيع أن أحدث أي تغيير أرجو وأتمنى حدوثه عبر مقالاتي المرتبطة بأحداث آنية سرعان ما تتغير وتخلي السبيل لأحداث أخرى تليها وتسحب بساط الاهتمام الإعلامي منها. هل يستطيع الكاتب أن ينأى بنفسه وينعزل في برجه عما يحدث من حوله من أحداث سياسية حقاً، خاصة تلك الأحداث المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأبعاد إنسانية واضحة وصريحة، وأوشك أن أقول صارخة؟ صحيح أننا لن نغير الواقع بكتاباتنا وبحروفنا العاجزة والخرساء، غير أن تلك الحروف والكلمات هي سلاحنا الوحيد الذي نعوض به عن عجزنا عن إحداث تغيير ما في الواقع الأليم الذي يتجلى عاريًا أمام أعيننا كل يوم وكل ساعة، وفي أكثر من مكان من الجسد العربي المثخن بالجراح، الذي تكسرت النصال فيه على النصال. ولأن مواطن الجراح كثيرة، ومواضع الألم عديدة، فمن الطبيعي ألا تستطيع ككاتب هاوٍ أن تلم بها كلها، وأن تتابع كل واحدة منها بكل تفاصيلها وجزئياتها، فهي مثل الظباء التي تكاثرت على «خراش» فلم يدر ما يصيد منها، كما يشير بيت الشعر العربي المشهور. وما يحدث غالباً هو أن تفرض مسألة ما حضورها على وعيك، وربما لا وعيك، عبر ما ينشر في وسائل الإعلام بقنواتها المختلفة، وفي الصحف والمواقع الإخبارية مما يدفع بك لأن توليها اهتماماً أكثر من غيرها، ومن ثم تنصرف للانشغال بها والكتابة عنها. وعودة إلى ما أشرت إليه في مستهل المقالة، ليس لدي معلومات وافية عن حقيقة وضع السنة في البصرة تسمح لي بأن أكتب عنهم. وهذا لا يعني بالطبع أنني تجاهلتهم متعمداً. أما الحديث عن أطفال العراق فهو حديث ذو آلام وشجون لا تنتهي. ولعل أكثر ما يؤلم فيه بالنسبة لي وأكثر ما أخشاه هو أننا فيما يبدو قد اعتدنا عليه وصار شيئاً مألوفاً بالنسبة لنا بحيث لم يعد يحرك شيئاً في دواخلنا ولا يلامس شغاف قلوبنا التي سرعان ما يعلوها صدأ الألفة وغبار النسيان.