امتلأ إيغور مويسييف بالزهو وهو يتلقى دعوة من السيدة زلفى، قرينة الرئيس اللبناني كميل شمعون، ليشرب الشاي معها في قصر الرئاسة. كان الفنان الروسي يقوم بجولة مع فرقة «الباليه» الخاصة به وقد قدم عرضا على مدرج بعلبك، أيام كانت بيروت هي باريس الشرق. ولم يكن يتوقع أن الداعية تخبئ له مفاجأة. مويسييف كان أكبر مصمم للرقص الكلاسيكي في تلك الفترة من أواسط القرن الماضي، وله مدرسته الشهيرة في موسكو، وهو قد ذهب إلى الموعد ليجد زلفى شمعون محاطة بمجموعة من السيدات، تتقدمهن مي عريضة، رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك، وكان المطلوب منه التعاون لتدريب مصممين لبنانيين للرقص، يبتكرون استعراضات مستوحاة من الفنون الشعبية المحلية. أجّل الفنان الروسي موعد عودته إلى موسكو وتفرّغ، طوال يومين، للطواف ببعض القرى اللبنانية ومشاهدة حلقات الدبكة، يرقصها شبان بسراويل سود وبنات يربطن شعورهن الطويلة بمناديل ملونة. وسرعان ما استهوته الفكرة ووافق عليها معلنا استعداده لاستقبال المرشحين في مدرسته. وكان المرشحان هما وديعة ومروان جرّار. زوجان عاشقان للفن، سافرا إلى موسكو وتلقيا دروسا في تصميم الاستعراضات الراقصة، على يد مويسييف، وعادا بعد شهر ليشكلا أول فرقة للفنون الشعبية في لبنان. أقرأ هذه الحكاية، وغيرها كثير، في الكتاب الذي أصدره المسرحي اللبناني نبيل الأظن عن مي عريضة بعنوان «حلم بعلبك». فعندما تتدهور الأوطان إلى فخ الطائفية، يتشبث الحالمون بما تبقى من رؤاهم. إن الحديث عن رموز الماضي حجّة للتذكير بالمجتمع الذي كان. فالمؤلف، في نهاية المطاف، لا يكتب عن رائدة عاشت ثمانين حولا، بقدر ما يحاكي نفسه ويواسيها ويسترجع الأسماء التي صنعت لبنان وأطلقت معجزته في المنطقة. في تلك السنوات، لم تكن هناك فضائيات تنقل لنا ما يجري في البلاد، من طنجة إلى حضرموت. ولم نكن نعرف من الفنانين العرب إلا من نسمع أصواتهم في الإذاعات المحلية، أو في مجلات فنية تصل في مواعيدها من القاهرة وبيروت، مثل «الكواكب» و«الشبكة». ولم يكن عدد من هذه الأخيرة يخلو من صورة لمي عريضة. إن صفحات المجتمع تتألق بتلك المرأة الأنيقة المترفة التي تشد شعرها الأشقر خلف رأسها في تسريحة مميزة لا تتحرك فيها شعرة، وتحافظ على زينة مضبوطة بالمليمتر. في الكتاب الصادر بالفرنسية عن منشورات «المجلة الفينيقية»، يروي لنا الكاتب أن زلفى شمعون، كانت قد سعت لدى الأخوين رحباني، أن يقدما «أُوبريت» على أدراج معبد جوبيتر في بعلبك. وهكذا ظهر إلى النور، في الحادي والثلاثين من أغسطس (آب) 1957، أول استعراض فولكلوري لبناني بعنوان «عرس بالضيعة»، كتب قصته الأديب الكبير يوسف إبراهيم يزبك وصممه مروان ووديعة جرّار ولحنه الأخوان رحباني وحلق فيه صوت فيروز فوق أعمدة المعبد الأثري. ومثلما أطلق الشاعر سعيد عقل على فيروز لقب «سفيرتنا إلى النجوم» فإنه ترجم «أُوبريت» إلى «مغناة». ومي عريضة ليست صورة جميلة في المجلات فحسب. إنها تاريخ مخبوء في التسريحة التي لم تتغير. عاصرت زمن الانتداب وتمتعت بزهو الاستقلال. ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب لكنها لم تسجن نفسها في البحبوحة. امتلكت إرادة قوية وطاقة على التنفيذ. عرفت زمن الدعة والسهرات وشهدت جنون الحرب ولم تتنازل عن حلم بعلبك، مهرجانها الذي جاء بالكبار إلى مدارج القلعة الرومانية في سهل البقاع: أُم كلثوم وهربرت فون كارايان وإيلا فيتزجيرالد ووديع الصافي وصباح ومايلز ديفيز وجوان بايز. إنها ملامح وطن عنيد في امرأة. وحين يستعجلها نبيل الأظن ويحثها على كشف الكنز الراقد في ذاكرتها، مثل صندوق ذهب غرق في قاع البحر، تستمهله: «هيه... شوي شوي... طوّل بالك يا عمّي».