في صباح يوم من الأيام، درس التلاميذ مقطوعة شعرية من قصيدة «الجنة الضائعة» لشاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي، وقد اختار القائمون على المنهج «مرح الطفولة» عنواناً للمقطوعة المقررة. وما زلت أجلُّ، وأقدر كل من يكتب للأطفال، وعن الأطفال؛ لأن الطفولة ستبقى أجمل أيام العمر، وأهم مراحل حياة الإنسان. ومما يعجبني، ويعجب الكثيرين في شعر الشابي هو قدرته البارعة على التصوير حيث تشعر وأنت تقرأ كثيراً من قصائده أنك تقف أمام لوحة تتأمل تفاصيلها التي تأخذك إلى عوالم مختلفة . وسأحلق بك بالانطباع لا بالنقد- من خلال هذه السطور في فضاءات طفولة الشابي الجميلة التي عاشها سعيداً في منأى عن ألم المرض، وأمل العيش! ومما قاله الشابي في تلك القصيدة: وبناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيور مسقوفة بالورد والأعشاب والورق النضير نبني فتهدمها الرياح فلا نضج ولا نثور إن المتأمل في شعر الشابي ليجد أنه قد هام بالطبيعة، وجعل لها حيزاً كبيراً في شعره، لكنه وكما أشار النقاد لم يكن يصف الطبيعة لذاتها، بل إنه طالما ربط بين وصفه للطبيعة وبين أحواله النفسية! جميلة هي ألعاب الطفولة في البيئة الجميلة.. أكواخ مبنية سُقفت بالورد والعشب والأوراق البديعة، ولطالما عملنا في طفولتنا كما عمل الشابي، كنا نخرج إلى البَر، فنتسابق لجمع الحجارة الصغيرة؛ لنبني بها بيتاً جميلًا محاطاً بسور من أعواد الشجيرات المتناثرة، وحتى إذا جاء وقت المغادرة تركناه إن كنا نعرف أننا سنعود إلى المكان نفسه، أو هددناه بعد أن أمضينا الوقت والجهد في بنائه دون إعلان التعب، أو إشهار الغضب! ثم يقول: ونعود نضحك للمروج وللزنابق والغدير ونظل نركض خلف أسراب الفراش المستطير في هذين البيتين يرسم الشابي لوحة جميلة للطبيعة في تونس الخضراء زادها جمالًا وبهاء تلك الضحكات البريئة المرسومة على الشفاه الصادقة، فأطفال لا تعرف قلوبهم إلا النقاء، وأجسام تلعب في مرح وهناء. ثم يقول: ونشِيد في الأفق المخضَّب من أمانينا قصورْ توقفت كثيراً عند هذا البيت؛ لجمال لفظه، وعمق معناه؛ فهو يكشف عن شخصية الطفل المختلف، الطفل الذي يلعب، ولا يكتفي باللعب، بل هو مع لعبه، ومرحه، ونقائه، وبراءته طفل ذو خيال واسع، ومتى كان اللعب ينمي خيال الطفل كان ذلك هو اللعب المفيد كما يقول المتخصصون في التربية الذين يذكرون أيضاً أن اللعب السلبي يكون في اللعب الذي يقتل الخيال، ويهدر الوقت كألعاب الفيديو ومثيلاتها! إن اللعب حق من حقوق الطفل؛ ولذا يقول الدكتور هنس شويرل وهو باحث في مجال اللعب: «يوفر اللعب ميداناً لخوض التجربة، وجمع الخبرة، لا يمكن تعويضه، ودونه سنكون أقل مهارة». الأم مطالبة باللعب مع طفلها؛ لأن ذلك يجعلها أقدر على التواصل معه، ودخول عالمه الخاص. والطفل الذي يجد قليلًا من الألعاب تجده يقدر قيمتها، ويحسن استخدامها، ففائدة الألعاب في قلتها، وأفضل منها الألعاب الحركية التي تبني جسم الطفل وتقويه. أطفال اليوم لا يلعبون، فحصص التربية البدنية في مدارس المرحلة الابتدائية غير كافية، والملاعب المهيأة في الأحياء غير متوفرة ؛ لذا صار أطفالنا يقضون ساعات طويلة في ممارسة الألعاب الإلكترونية التي حذر منها المتخصصون في التربية. كثير من أطفالنا يفتقدون لقيم ثقافة اللعب الجماعي كالتسامح، والإيثار، والتعاون، بسبب قصور في التوعية والتثقيف، حتى حمل غلاف أحد المناهج المقررة في المرحلة الابتدائية صورة مشادة بين بنتين في الألعاب، فكيف بالأولاد؟ بل إن هناك من حَرمَ الأطفال اللعب، وكلفهم ما لا يطيقون في مخالفة لأنظمة دولية مقررة تحفظ للأطفال كرامتهم .. حُرموا بتسول مرفوض، وأنهكوا بأعمال لا تستطيع أجسادهم الغضة تحملها!! روى البخاري في الأدب المفرد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى غلاماً ، فقال له : «يا غلام ، اذهب اِلعبْ». الأطفال هم إشراقة الحياة، وأمل المجتمعات الباسم.