يشكل الإعلام رافدا حيويا في تكوين الاتجاهات والرأي العام، فهو يمزج ما بين الحاجات والرغبات ويساعد على حدوث التقارب بين الأفراد، ما يساعد على بلورة الأفكار، وهذا ــ بدوره ــ يقود إلى مواقف جماعية مشتركة. وتزداد أهمية هذا الدور في عصر التقنية الحديث، حيث تنوعت وسائل الإعلام وأشكاله وقنواته بشكل كبير، حتى أصبحت في متناول كل فرد ببساطة وسرعة تعادل ضغطة زر. أمام انفتاح قنوات التقنية الإعلامية في عصر العولمة، نجد أنفسنا اليوم محاصرين بسيل من القنوات الفضائية، الغث منها يفوق السمين، والطائفي منها يطغى على الموضوعي، والسياسي المؤدلج يكاد يكون السمة الطاغية لأغلب القنوات. وإزاء ما شهدته منطقتنا العربية من أزمات وتحولات، كان للإعلام دور كبير في تغطيتها بشكل متواصل من قبل معظم القنوات الإعلامية، إلا أن الإعلام في هذه المرحلة لم يقتصر على النقل الموضوعي المحايد للأحداث والأزمات، بل أصبح أداة من أدوات التأجيج والاستقطاب بلغت ذروتها بعد امتداد الثورة السورية لأكثر من 36 شهرا واستمرار الثورة المصرية الأولى والثانية، ليتبلور ذلك الاستقطاب والتجييش في أوضح صوره بعد فض اعتصام رابعة العدوية وما تلاه من أحداث دموية مؤلمة في مصر. لم تفرق أزمة بين أبناء الشعوب العربية مثل ما قامت به أزمتا سوريا ومصر في مسيرتهما المتواصلة حتى اليوم من تفريق بين الشعوب وشق للوحدة الوطنية. فمنذ بداية الثورة السورية كان للإعلام الدور الواضح في تأجيج الاختلافات وتباين المواقف بين أفراد الشعوب العربية، لدرجة أصبحت فيها تلك الاختلافات مصدرا للاصطفاف والتخندق مع جهة ضد أخرى. ومع تقادم الأحداث وتطورها وصلت تلك الأزمة مداها حتى بين أفراد الأسرة الواحدة بناء على ما يستقونه من أخبار وتغطيات تبثها القنوات الإعلامية. فكان أن رأينا القطيعة والاقتتال بين الأفراد في تمثيل حي لما تبثه القنوات الإعلامية من برامج حوارية أبطالها لا يعرفون من الحوار إلا العنف اللفظي والاقتتال الطائفي، يتساوى في ذلك المثقفون والسياسيون والحزبيون. ولنا في «الاتجاه المعاكس» دليل حي لما يمكن أن يكون عليه الحوار من حدة في النقاش وتلاسن وتراشق بالسباب والإهانات الشخصية التي تصل أحيانا إلى حد مقيت من البذاءة، بل وتتجاوزها إلى العراك الجسدي أحيانا. وتواصل هذا الاتجاه، بل وأصبح أكثر وضوحا بعد ثورة الشعب المصري ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين وما تلاه من أحداث دامية خلال فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وما تبعها من تطورات. وبغض النظر عن مصداقية القنوات الإعلامية التي باتت على المحك، وإفرازات الإعلام الإلكتروني الذي يطفح أحيانا بالأكاذيب والتلفيق واختلاق القصص وفبركة الأحداث، نجد أنفسنا أمام سيل خطير من التأجيج المقيت والتلاعب بمشاعر المواطنين وجرهم نحو الاحتراب الحزبي الذي يقدمهم قرابين طيعة لأجندات لا تخدم أحدا. نحن اليوم أمام مفترق طريق إعلامي شائك علينا مواجهته بالحكمة والوعي وعدم الانجراف خلف ما يقدمه من تغطيات انتقائية وتزييف للحقائق وكسر للواقع المكسور أصلا من أجل أهداف دعائية تقرع طبول التناحر وتجر الأفراد لمستنقع الكراهية والطائفية. صحيح أنه لا يوجد إعلام موضوعي حر مائة بالمائة، حتى في الدول الديموقراطية. ولكن هناك قدر أدنى من المهنية والموضوعية مطلوب في نقل الأحداث وتغطية الأزمات. بالطبع لا نتوقع دوما تغطية كل الجوانب أو عرض جميع وجهات النظر، ولكن نحتاج إلى أن نقف بحزم ضد الإعلام عندما يفبرك الأحداث أو يختلق القصص أو يروج للأكاذيب المفضوحة دون اعتبار لعقل المشاهد أو احترام لذوقه أو تقدير لأمن مستقبله. الإعلام جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي، فهو ليس حرا بشكل مطلق، بل يجنح أبدا إلى التعبير عن الموقف السياسي أو الثقافي أو الأيديولوجي. هذا هو ما نشاهده وندركه في الغالب. لكن إعلام الأزمات يفرض مسؤوليات أخلاقية أيضا تتجاوز كل ما ندركه من أجل مستقبل أقل دموية ومن أجل اتجاهات أقل تعصبا.. إنه مستقبل الأجيال بعيدا عن الكراهية والصراع والعنف. فهل تعي القنوات الإعلامية تلك المسؤولية؟. akashgary@gmail.com