تنغرس المقولة العجيبة (من علمني حرفاً صرت له عبداً) وكأنها قانون تربوي وليس تعليمياً فقط، والملحوظ أنها أهم جملة تتردد في الثقافة التعليمية، تحت مظنة الوفاء والتقدير للعلم وتنزيله منزلة رفيعة بما له من فضل وما يجب له من تقدير، ولكن الجملة لم تأت من فراغ ثقافي، وهي امتداد لمعانٍ نسقية تصنع طبقيات ذهنية ومجتمعية تعطي تفوقاً لبعض البشر على بعض آخر، فمن هو أكبر منك فهو أعلم منك، ومن هو رجل فهو أحكم من المرأة، ومن هو أبيض أشرف من الأسود، ومن هو صاحب منصب أرقى من العامة، ويشيع مصطلح الخاصة منفصلاً عن العامة، وهكذا هو التراتب الطبقي الذي أفضى إلى جعل التعلم والتعليم مادة للاستعباد، وكان سلفنا القريب يرددون مقولة (لك اللحم ولنا العظم)، وهي جملة تقال عند إدخال الصبي للمدرسة وتسليمه ليد المعلم مع تفويض الجسد كله للمعلم ضرباً ورفساً وتدمية، حتى يصل للعظم ويقف دون كسر العظم، أما ما عداه فهو مباح، وكأن التعليم حلبة صراع وضرب واستعباد، وهذه أول مكونات التعليم الفاشل، حيث لن يكون التعليم معركة عقلية ومعرفية، وسيكون الانصياع للأستاذ هو الشرط للتعلُّم، أي أن تشغيل الذهن المتسائل والمتبصر سيكون جريرة وإثماً، ونلحظ ذلك في تجارب الطلاب في المدارس حين يطرح الطالب رأياً أو سؤالاً محفزاً فيلاقيه وابل التقريع والضرب والإخراج من قاعة الدرس لأن الطالب تمرد على سيده، ولم يخضع نفسه وجسده لسلطة الأستاذ، ومشكلتنا مع بعض المقولات هي أن نغفل عن نقدها مع أنها تصب في مسار تغذية النسق التسلطي من جهة والاستسلامي من جهة، وتعزز الطبقيات وتغلق المجال على النمو المعرفي وكأن الطالب لن يكون أفضل من أستاذه، وأن الأستاذ هو قمة المعاني، وهنا لن ينفتح مستقبل المعرفة وتصبح كلها مستخلصاً للماضي الذي ننتهي بحفظه وترداده، ولن نزيد عليه، وسأتبع هذه التوريقة بتوريقات أُخر تدور حول الأمر نفسه. وإن كنت معلماً لأربعة عقود فإن قاعدتي كانت هي: (لست عبداً لأحد.. وأريد تلاميذ أحراراً وليسوا عبيداً).