المقارنات التي تُجرى في أيامنا بين ما كان عليه الفن، وما انتهى إليه، غالباً ما تغفل جانباً بالغ الأهمية، هو كون الفنان الأصيل مؤرخاً على طريقته، وبالفعل هناك دول بدأت تعيد النظر في المنجزات الفنية الموروثة، للتعرف إلى تفاصيل لم ترد في كتابات المؤرخين.ولهذا أصبحت الفنون جديرة بالتعامل معها كوثائق، لكنها وثائق وجدانية تكشف عن أهم المكونات النفسية والتربوية للجماعات البشرية، وذلك بعكس الفنون الملفقة التي تستهدف التسلية فقط، والربح السهل، حتى لو كان على حساب الذائقة العامة، وهناك فنون لعبت دوراً في تغيير أو تطوير قوانين، كما حدث في مصر، عندما استطاع فيلمان سينمائيان إحداث تغيير في قوانين ذات صلة بالسجون، هما جعلوني مجرماً، وكلمة شرف!تماماً كما أن بعض الكتب لأدباء، أحدثت مثل هذا التغيير في القوانين، ومنها كتاب ألبير كامو عن عقوبة الإعدام بالمقصلة، وكتاب آخر لآرثر كوستلر عن عقوبة الإعدام بشكل أشمل! وقد يكون أحد المعايير التي تجعل من الفن قابلاً للصرف، ومأخوذاً بجدية من أولي الأمر، الصدق في التعبير عن الواقع بلا أية مواربة، فالفن الرديء والاستهلاكي الذي لا يعيش طويلاً، هو الفن الذي يتجنب الحقائق، ولا يرى من الزجاجة غير نصفها المملوء، بحجة التفاؤل، رغم أن الواقع ليس ملائكياً أو شيطانياً فقط، وفيه متسع للخير والشر والصدق والكذب والجمال والقبح، لأنه واقع بشري، وما من كائن فيه معصوم من الخطأ!والحنين إلى ما يُسمى الزمن الجميل، ليس مجرد نوستالجيا أو بكاء على الأطلال، إنه حنين إلى الرصانة والجدية والالتزام. رغم أن طريق الفن في ذلك الزمن لم يكن معبداً، ومن يتورط فيه، يجازف بأثمن ما لديه.فأين هو الفن الآن الذي يملك نفوذاً يُعدِّل قوانين؟ ويطرح نماذج وأنماطاً من التفكير والممارسة، بحيث يكون استكمالاً تربوياً للبشر!إن ما يحدث هو على العكس من ذلك، لأن متطلبات السوق تفرض شروطها، وقد يغيب عن البعض أن أهم ما كُتب في علم النفس، كانت مادته الخام روايات وأفلاماًَ بالأبيض والأسود، فما الذي تغير؟ هل هو الفن أم البوصلة التي يهتدي بها؟! منصور