في إحدى رحلاتي لأوروبا وأنا بالطائرة لفت انتباهي أم بريطانية مع ابنتها، عمرها حوالي ثمانية أو سبعة أشهر تبكي وهذا مشهد مألوف متكرر في الطائرات، ولكن غير المألوف حوار الأم، فقد كانت تتحدث معها كأنها صديقة حميمة لها وليست طفلة لم تبلغ سنتها الأولى بعد، تقول لها: «أنتِ متضايقة؟! يبدو أنكِ تريدين أن تأكلي، غريب! للتو انتهيتِ من وجبة الغداء! هل كانت غير كافية يا عزيزي؟ (وتنتظر الأم الإجابة وكأنها ستجاوبها فعلاً)، حسناً لا تقلقي حبيبتي سأخرج الآن علبة الطعام تفضّلي» وبدأت تطعمها وتكمل الحوار: «أعلم أن هذه أكلتك المفضّلة، أما أنا فأفضّل البيتزا يمي يمي..» تردد أغنية عن الأكل ثم تكمل حوارها «أنا سعيدة أنك بدأتِ تهدأين، أتمنى أن تكون هذي الرحلة مريحة لي ولَكِ» أكملت الحوار بهذا الشكل المحترم والمثير للتفكير، وهي تناغيها وتتواصل معها بصرياً بحب ولهفة، قطع استمتاعي صوت أم سعودية تصرخ في طفلها ذي السبع أو الست السنوات الذي كان يتحرك ولا يريد الجلوس والأم تنهره وتقول «أووص ولا كلمة صك فمك أقولك أووص ترا إذا سويت كذا الطيارة تطيح فينا!! تبيها تطيح!! الحين بتطيح شف شف بدت تطيح اقعد بسرعة!! «وأكملت فيلم الرعب قائلة «الحين بنادي المضيفة توريك شغلك» ارتعش الطفل المسكين في مكانه واختلفت تعابير وجهه بين الخوف والغضب والاستياء، وغمزت الأم للمضيفة قائلة صح الطيارة بتطيح لو ما قعد مكانه؟ هاوشيه!! كيف تتوقّعون ستكون الطفلة البريطانيّة عندما تكبر بالمقارنة بالولد المرعوب المقهور؟ من سيكون أكثر ثقة بنفسه والآخرين! من سيُصبِح متصالحاً مع نفسه ويشعر برضا وسكون داخلي فيتحاور ويتقبّل الآخر باحترام! من سيبدع في مجتمعه! من سيكبر ناقداً يفكر بمنطقية ويحلّل قبل أن يختار أو يقرّر! من سيكون منتجًا ملتزمًا مثابرًا قادرًا على مواجهة تحديات العصر! من سيحمل الحب والسلام في قلبه للجميع! والأهم... من سيبني أمة ومن سيهدمها!! لم تتطور وتنهض الأمم المتقدّمة بمحض الصدفة ولا بقوى خارقة؛ إنها التنشئة السليمة التي تحترم العقل والنفس، إنها الوالدية الفعّالة.