أسقط الفيتو السادس الذي استعملته روسيا قبل يومين، لإفشال مشروع القرار المصري - الإسباني - النيوزيلندي لإعلان هدنة لمدة أسبوع في حلب، آخر فرصة ممكنة لفتح ثغرة في جدار الحل العسكري، يمكن أن تؤسس لإحياء الحل السياسي عبر إخراج «جبهة النصرة» من شرق حلب، بما يساعد ستيفان دي ميستورا على إنجاح رهانه على إحياء مفاوضات جنيف عبر هذه التجربة. على هذا الأساس لم يكن غريبًا أن تتزامن تصريحات دي ميستورا عن إمكان سقوط شرق حلب في يد النظام وحلفائه الإيرانيين، مع التصريحات المتناقضة التي تراشق بها سيرغي لافروف وجون كيري حول مسألة خروج كل المقاتلين من شرق حلب، ففي حين أعلن لافروف أن واشنطن وافقت على هذا، نفى كيري أن يكون قد حصل مثل هذا الشيء، لا بل إنه ذهب بعد اجتماعه في بروكسل مع نظرائه في حلف الأطلسي يوم الأربعاء الماضي، إلى خلاصات يائسة إن لم أقل إنها تيئيسية، لكنها انطوت ضمنًا على تحذيرات من اليوم الثاني بعد سقوط حلب في يد النظام وحلفائه. تقول واشنطن بلسان كيري إنه حتى لو سقطت حلب، وقد يحدث ذلك وربما لا، فإن التعقيدات الأساسية التي تقف وراء هذه الحرب لن تنتهي، «الحرب ستستمر.. العنف سيستمر»، لكن المحللين الروس كانوا في الوقت عينه ينقلون عن لافروف أجواء تقول «إن ما بعد حلب ليس كما قبلها»، بما يعني أن الفيتو الروسي السادس لدعم الحل العسكري في سوريا من جهة، وإقفال الفرصة على أي تفاهم بين موسكو وواشنطن على السعي فعليًا لوضع أسس لحل سياسي من جهة ثانية، أكدا نهائيًا رغبة فلاديمير بوتين في حسم الأمر في حلب قبل تسلّم دونالد ترامب مهماته في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل. يبدو هذا الاتجاه جليًا بعدما استنفد لافروف كل مناوراته، التي بدأت بمطالبة الأميركيين بالفصل بين «جبهة النصرة» وباقي المنظمات، وكان هذا مستحيلاً في ظل القصف الروسي المدمر والبراميل التي تتساقط على الأحياء، مما يؤكد رغبة روسيا الدائمة في فرض النظرية الأولى التي أطلقها بوتين صراحة في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي بعد تدخله العسكري، عندما اعتبر أن كل معارض للرئيس بشار الأسد والنظام إرهابي! لافروف قال قبل أيام إنه تفاهم مع كيري على خروج كل المسلحين من شرق حلب، ورغم نفي كيري، أضاف قائلاً إن على جميع المسلحين مغادرة حلب أو الموت، وإنه في كل الأحوال من يرفض المغادرة طوعًا سيتم القضاء عليه ولا توجد أي خيارات أخرى، ومن الطبيعي أن يعيد ذلك الأمور إلى مربع القتل الأول الذي كان بوتين قد أعلنه قبل 18 شهرًا. هذه خلاصة الموقف الروسي حيال الأزمة السورية، وقد كان من الواضح دائمًا أن كل المحادثات والمشاورات والشروط العرقوبية التي طرحها لافروف على كيري، إنما هدفت إلى تغليف المضي في الحل العسكري، بإثارة غبار التعمية عبر الزعم أن موسكو تسعى إلى الحل السياسي على قاعدة أن الشعب السوري هو من يقرر مصيره. قبل ثمانية أشهر، تباهت موسكو بأنها تستقبل شخصيات من المعارضة السورية في سعي للبحث عن حل سياسي، كان واضحًا أن معظم الذين ذهبوا هم من معارضة الداخل التي فبركها النظام، والذين لم يكونوا كذلك عادوا بالخيبة، وآخر إبداعات لافروف أنه استجاب قبل ثلاثة أسابيع لوساطة تركية، تمثّلت باستضافة أنقرة محادثات بين ضباط روس وممثلين عن المعارضة المعتدلة في حلب، وكان من نتيجة المحادثات أنه تم التوصل إلى اتفاق من أربع نقاط، وهي: 1 - وقف إطلاق النار في حلب الشرقية. 2 - خروج عناصر «جبهة النصرة» وهو ما طالبت به موسكو دائمًا وعرض دي ميستورا أن يواكب شخصيًا خروج هؤلاء. 3 - إدخال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين وبينهم كثير من الجرحى. 4 - الإبقاء على الإدارة المحلية القائمة في تلك الأحياء من أعوام في انتظار الحل النهائي. عندما رفض النظام والإيرانيون هذا الاتفاق وتمسكوا بالمضي في الحسم العسكري بعدما ساعدتهم حملات القصف الروسي المكثفة، وجد لافروف مخرجًا سريعًا لإسقاط هذا التفاهم، عبر الإعلان المفاجئ أن الأميركيين وافقوا مع موسكو على خروج كل المقاتلين من شرق حلب، وهو ما دفع المنظمات المعتدلة التي شاركت في المفاوضات في تركيا إلى الإعلان أنها لن تنسحب وستقاتل في شرق حلب حتى الموت. المثير أن واشنطن نفت أن تكون وافقت على ما أعلنه لافروف، وحتى إعلانه أن هناك خبراء روسًا وأميركيين سيجتمعون نهاية الأسبوع في جنيف لبحث الجوانب اللوجيستية، وتفيد التقارير بأن تركيا التي استضافت المحادثات كانت تراهن على التأسيس لمقايضة تسمح لها بالوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية، لقطع الطريق على الأكراد في مقابل تسليم رقبة «جبهة النصرة» في شرق حلب، وهنا ليس من الواضح أين هي حدود الرهان الأميركي الذي كان يراقب ما يجري. لم يكن جون كيري في حاجة إلى إثارة التقزز من خلال محاولة التعمية على الفشل الأميركي الفاضح والمتمادي في سوريا، عبر تحميل المعارضة السورية مسؤولية رفض الهدنة منذ البداية، بالقول إنها رفضت اتفاقًا لوقف النار كانت قد وافقت عليه إيران وروسيا خلال الاجتماعات الأولى لمسار فيينا، ذلك أن الظروف في ذلك الحين كانت مختلفة، على الأقل لأن واشنطن كانت في حينه تتحدث عن حتمية الحل في إطار انتقال سياسي، وهو ما كانت موسكو قد رفضته، لا بل أفشلته دائمًا منذ مؤتمر جنيف الأول في عام 2013، الذي عقد على أساس البنود الست التي وضعها كوفي أنان في حينه، الذي سيتهمه النظام بالانحياز في وقت لاحق، كما حصل مع الأخضر الإبراهيمي ويحصل الآن مع دي ميستورا! في أي حال بدا حديث كيري الوداعي في خلال آخر اجتماع له مع وزراء خارجية حلف الأطلسي، كأنه يقفل باب اهتمام إدارة أوباما بما يجري في حلب، التي تذبح على عيون العالم، لكنه جاء بمثابة وصية لافتة يجب ألا تنسى، عندما يقول إن بشار الأسد لن يمكنه توحيد بلاده وجمع أهلها مع بعضهم بعضًا، كما أنه لن يتمكن من إعادة تحقيق الإعمار، لأن ذلك سيحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات، والمجتمع الدولي لن يساعد في ذلك ما لم تكن هناك تسوية سياسية، وهو ما يصرّ الأسد دائمًا على رفضه!