هناك قاعدة تكاد تكون قدرية. كل من بحث عن الشهرة، مات وفي حلقه الجاف شيء منها. فهي لا تأتي بقرار، ولكنها محصلة سلسلة من الظروف. يمكنها أن تدخِل صاحبها في دوار المرض المستعصي والعداوات الافتراضية وتخيل دائما أن هناك من يسرق منه حقه في الشهرة. وقد يحدث غيابها ردة فعل عكسية. كلما نظر الباحث عنها باستماتة، إلى المرآة أحسّ بالإخفاق وعدم صلاحية مع يبدعه، مع أن الشهرة ليست دائماً رهينة الإبداع الجيد، إذ كثيرا ما عبرت عن هيمنة نمط من التفكير تستجيب له بعض الكتابات دون غيرها، في لحظة محددة. هل الذي شهر كتابات باولو كوهيلو وموسو، ونتومب وكولنا إلى بيست سيلر هي الكتابة الاستثائية؟ أبدا. قراءة بسيطة لنصوصهم تبين أن وراء الشهرة شيئا آخر. لهذا قد يصاب الباحث عن الشهرة بخيبات متتالية تحول الحالة الطبيعية، إذ من حق أي إنسان أن يحلم بنوع من الكمال والاكتمال، إلى مرض حقيقي ينتهي بصاحبه إلى بعض الجنون قبل أن يكبر وتصبح السيطرة عليه مستحيلة، والضغينة ضد من كانوا بجانبه فقفزوا فجأة إلى الواجهة، بينما ظل هو مثبتا في مكانه. هذه الهيستيريا المخيفة التي تؤذي صاحبها قبل غيره، غير مؤدية في النهاية، لأن قدرا ما يلصق الإنسان بالأرض، مهما حاول عكس ذلك، ويعيده إليها كلما حاول أن يتعنتر في الفراغ. الشهرة استحقاق لا زمن له، قد يأتي في وقت مبكر، وقد يتأخر، وقد لا يأتي أبدا، لكن هذا لا يمنع الكاتب الطبيعي والمستقر ذهنيا من النوم. في النهاية، أجمل وأبهى شهرة، هي أن يكتب الكاتب ما يحبه ويرضي داخله وضميره، ويجهد نفسه ليكون منجزه مميزا، أو يحاول على الأقلّ فعل ذلك، ويترك الباقي لآلة الزمن، فهي كفيلة بترتيب الأولويات. لنا في شكسبير أسوة حقيقية. بعد أن دفنته ضحالة المواهب المحيطة به، عاد بقوة بعد مائتي سنة. أعتقد أن مطالب الأدب أبسط من تعقيدات الشهرة. الهدف الأمثل والأسمى هو أن تظل الكتابة والحياة متعانقتين. ما عدا ذلك، فهو نثر لا قيمة له، ونظم لا يرتقي إلى شعرية الحياة. لا شيء أجدى وأبسط من أن يتعامل الكاتب مع الحياة ببساطة خلاقة، مثل العاشق الذي يهمه أولا وأخيرا أن يظل قريبا مع حبيبته، متماهيا فيها. يعطي ولا ينتظر إلا هزات الحياة الجميلة التي تجمعهما، وهي كثيرة وليست الشهرة إلا أصغرها وأقلها قيمة. صحيح أن الكثير من الكتاب يغضبون لدرجة التفكير في الانتحار عندما لا يصلون لما يريدونه من اعترافات وجوائز، لكنهم لو التفتوا نحو ما يملكون من نِعَم الله لتغيّروا جذريا. ماذا تساوي شهرة طارئة أمام اتساع حياة تصنعنا ونصنعها كل يوم بشكلٍ أجمل وأبهى. كم يخطيء الناس في الثانوي على حساب الجوهري. تحويل الكتابة إلى ممارسة حياتية، وإلى جزء من اليومي الذي له قيمته الذاتية والعامة، هو الجهد الأوحد الذي يستحق الاهتمام والتضحية. الحياة هي مصدر كل الاستثناءات، بما في ذلك الكتابة والشهرة. الناس لا يعتبرون. لو عرفوا أن شهرة المعري والمتنبي ودانتي وزولا ومحفوظ وبلزاك وغيرهم، لم تفرضها الضغائن ولكن الكتابة واشتراطات زمنها. لا علاقة كبيرة للشهرة بالكتابة. شأنها أعقد. هي ضربة حقيقية قد تنزل على الرأس مثل الصاعقة من دون انتظار، فتدوخ صاحبها، وقد تصيبه مع الوقت بالجنون إذا لم يعرف كيف يسيّرها. ولا يحتفظ له التاريخ إلا بكتابه الأول الذي كان مصدر شهرته، وبعدها تصبح الكتابة تسيير دائم لأزمة نفسية تكبر باستمرار وتتسع. أزمة عدم القدرة على كتابة النص الكبير، أو حتى كتابة نص ثان. فيلتجيء، في حالات اليأس، إلى خلق المعارك الجانبية والوهمية، فقط ليتمكن من لبس جلد الضحية ليظل مستمرا في الوجدان العام. في اللحظة التي ينسى فيها الكاتب مهمته ويتحول الى سياسي بائس، أو مرشد أخلاقي، أو راقص أمام ملأ حوّله إلى مضحكة، يفقد فيها مشروعه الذي يندثر بسرعة معه. مع أنه كان يفترض أن تتحول ضربة الشهرة المفاجئة إلى لحظة جميلة للكتابة الحقّة والابتعاد عن الصور الإيهامية القاتلة، إذ كُتب له حظ لم يمنح لغيره. يتحول إلى ميت مستمر في حياة منتهية. لا يتجدد ولا يسمع للأصوات من حوله لأن ذاته تكفيه. هذا النوع من الكتاب، إذا لم ينتحر، ينتهي في أسوأ أجنحة العصفورية. الحياة استحقاق لا يشبه شيئا سوى الحظ الجميل ومتعة الحرية والكتابة.