النسخة: الورقية - سعودي بكل هدوء أعيدوا قراءة الخريطة.. الجغرافيا أولاً. للجغرافيا مكانة خاصة في عقل الرئيس الفرنسي الأوروبي الزعيم شارل ديغول. حتى مقولته الشهيرة: «إذا أردت التحدث في السياسة بلسانك عليك أن تنظر بعينيك وعقلك إلى الخريطة» أصبحت من المبادئ الأساسية في الشأن العام. ستظل منطقة الشرق الأوسط - حتى إشعار آخر - محوراً مكثفاً للحراك السياسي الدولي، كيف لا؟ وهي مهد الأديان السماوية الثلاثة وصاحبة أكبر امتياز من موارد الطاقة ومطلة على المسرح الدولي من ستة بحار. الأحداث السورية عززت من هذه المعادلة. بل تمت إعادة تنظيم العناصر التقليدية للقوة في منطقتنا من خلال نظام جديد تلزمه قراءة واضحة للخريطة. إذا بحثنا في الوثائق العامة البريطانية سنجد أن مصطلح «الشرق الأوسط» هو أساساً اسم للجغرافيا السياسية التي نعيش فيها. هذا المصطلح تم تداوله في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وتطور تمدداً وتقلصاً مع مرور الزمن والأحداث حتى استقر على حدود متعارف عليها. اليوم هذا المفهوم يضم الدول الآتية كمنظومة واحدة: مصر- تركيا- إيران - السعودية - سورية- العراق- لبنان- فلسطين المحتلة- الأردن- قطر - البحرين - الإمارات - الكويت- عُمان- اليمن. لم تجتمع هذه الدول على مشروع سياسي موحد، إلا أنه في العلم السياسي يتم تقسيم المواقع على الخريطة بحسب الاستراتيجية وليس الديموغرافيا. فثمة خطاب متداول يفيد بأن المسلمين السنة أكثرية والمسلمين الشيعة أقلية في هذا الإقليم. إعادة قراءة آخر إحصاءات البنك الدولي تدلنا على غير ذلك تماماً. فعند القراءة الدقيقة للخريطة سيتضح أن نسبة المسلمين السنة في الشرق الأوسط مجتمعين هي 44 في المئة، في مقابل 40 في المئة للمسلمين الشيعة. هذا بلغة الأرقام القابلة للنقد، أما بلغة الجغرافيا السياسية فهذه جماعات عليها التعامل من خلال الدول التي ينتمون إليها. هُويات مواطنة منتهية داخل الحدود وليست عابرة لها. أي بمعنى آخر لا توجد أكثرية حاكمة وأقلية تسعى للحكم. قد يتساءل بعضهم عن بقية العالم الإسلامي، ولاسيما أن غالبيتهم من السنة. يجدر التذكير بأن الدول لا تتحرك بحسابات الرغبة بل بحسابات القدرة. المسألة إذاً ليست أعداداً وأرقاماً، وإلا لما استمرت دولة اسمها إسرائيل. المقصود هنا هو أن الصراع القائم في سورية لن ينتهي بانتصار مذهب على الآخر. بل بتفاهمات بين الدول لملء الفراغ في السلطة. الصور والمشاهد للأحداث السورية توحي بالقرار خرج من يد الأنظمة الرسمية الإقليمية إلى يد أحزاب ومنظمات. هي حال تعكس الاشتباكات الحاصلة. حال تبرز العجز حتى اللحظة عن خلق التوازن. حال أخطر ما فيها هو تلاشي الحدود واستبدالها بحواجز نفسية لا علاقة لها بأصل الصراع. أثناء الحرب الأهلية اللبنانية قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بزيارة سرية لرئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، يحكى أنه استوقفت الرئيس الفلسطيني المنشورات واليافطات المعادية والمعلقة في شوارع وأزقة حي الأشرفية من «لا لسورية» و«لا لفلسطين»، عند اللقاء توجه عرفات للجميل قائلاً: «انتبه يا شيخ بيار، التعبئة النفسية أخطر من التعبئة العسكرية». عندما تناكف الجغرافيا المصالح الدولية تستدعي كل الأرواح الشريرة. عندها تنفجر المكبوتات القبيحة للشعوب من طائفية وإثنية. في تصريح له عن الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط يعكس الوزير السابق هنري كيسنجر هذه المقاربة، كعادته في استخدام الحوادث التاريخية وبلغة أكاديمية، فيصف القتال الدائر في سورية بأنه حرب قد تنهي المبادئ التأسيسية للعقل السياسي الغربي. فمنذ عام 1648 - وهو تاريخ أول اتفاق ديبلوماسي دولي في العصور الحديثة والمسمى بصلح وستفاليا - برزت نظرية تقول إن للعالم نظاماً عاماً على قاعدة الفصل بين السياستين الدولية والمحلية. نموذج الأمة - الدولة والسيادة - هو الأساس في هذا النظام الدولي الجديد. يستطرد كيسنجر في تحليله بأن المبادئ نفسها لم تمارس كاملة في منطقة الشرق الأوسط. لم يوضح على العموم إن كان مارسها هو وإدارته أم لا؟ المهم معاهدة وستفاليا أنهت حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت. هذا كان في الشكل أما في المضمون فقد أعادت توزيع نفوذ القوى المتصارعة في أوروبا. بطبيعة الحال الصراع الطائفي يخدم كحيلة لتحقيق مكاسب ونفوذ. غير أن المهمة الكبرى تنصبُّ في كيفية استعمال القوة لتشكيل بيئة متماهية مع الطموح، فأي عمل سياسي لا تكون قاعدته جغرافيا متصلة مصيره الانكفاء والخروج من قطار التسويات. في عام 1945 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اجتمع الحلفاء كعادة المنتصرين لتقاسم الغنائم. توجه الرئيس السوفياتي ستالين بسؤال تهكمي محدداً شروط الجلوس على الطاولة: «ليشرح لي بابا الفاتيكان، كم فرقة عسكرية لديه في أوروبا؟». لا يكفي توقيع اتفاق لانجلاء غبار الاشتباك السياسي على طول خط طهران - واشنطن. وحتى الاتفاق الكيماوي السوري الذي سبق التفاهم الإيراني - الأميركي لا يعكس إلا حقيقة واحدة: تغير المشهد في المنطقة. باختصار جاءت التفاهمات الأخيرة كنتيجة للتغيير وليس سبباً لحصوله. جاءت بعد ظهور خريطة جديدة وبموازين قوى مختلفة. العنوان واضح: المنطقة تستوعب الجميع من خلال القيود المزمع الاتفاق عليها. فلقد بات من المؤكد أن التفاهمات السابقة لن تكون الحل لكل المشكلات، ولكن ستكون النافذة لإيجاد توازن جغرافي- سياسي جديد. ما حصل ويحصل في سورية كثير، في الكمية والنوعية. قتل ودمار ولجوء وحتى احتلال لمن نسي. التغيير حصل والاستقطاب سيد الزمان والمكان. يتجلى هذا المنطق من المواقف العامة للمتابعين للأحداث. نظرة تغلب الإيجابية كإرهاصات وأخرى سلبية لا ترى إلا الفشل منبعه الثقافات. الواقع أن اللحظة تتطلب العقل لاستيعاب الاستحقاقات. فعلى مسافة أكثر من عشرة أعوام منذ الاحتلال الأميركي للعراق ما زلنا في التحليل نتحدث بموازين قوى تجاوزتها الأحداث وفي القراءة نطالع خريطة لا تشبه الواقع، وفي السياسة نستخدم خطاباً لا يلبي الطموح. * كاتب سعودي.. tz@zedangroup.com