×
محافظة المنطقة الشرقية

بشائر خير وبركة

صورة الخبر

الفركتلات: هندسة الطبيعة لا تُخطئ العين التشابه بين تفرع أغصان الأشجار وتفرع النهر إلى جداول أو شكل الشجرة الذي يتخذه البرق في السماء، هل تساءلتم لماذا هي متشابهة وكيف لها أن تتخذ هذا الشكل الذي قد يكون عصيا على الوصف لو رأيته للوهلة الأولى؟ العربحسن مازن [نُشرفي2016/11/28، العدد: 10469، ص(12)] بنوا ماندلبورت مع أيقونته الشهيرة أطلق لويس فراي ريتشاردسون وهو رياضي إنكليزي، في بدايات القرن العشرين، سؤالا من الممكن أن يكون مر بذهن الكثيرين، وهو كم طول الساحل البريطاني؟ قد يبدو هذا سؤالا عاديا ومن الممكن الإجابة عنه باستخدام شريط قياس على خارطة مرسومة بدقة ومقياس رسم معلوم، أو في أسوأ الأحوال بالإمكان الاعتماد على فريق من هواة التنقل والتخييم واستخدامهم لقياس الساحل بدقة أكبر، لكن الإجابة لم تكن بهذه السهولة كما اكتشف ريتشاردسون نفسه. بتحسسك لسطح طاولة الطعام لا تستطيع أن تتحسس النتوءات والحفر الدقيقة التي من الممكن أن تراها بعدسة مكبرة، وبالتالي فعندما تريد أن تقيس المساحة السطحية للطاولة ستفترض أنها ملساء وتتجاهل التفاصيل المايكروسكوبية التي بالتأكيد ستُغير نتيجة قياسك لو أخذتها بالحسبان. يزود جهاز الدوران كافة خلايا الجسم بالدم بينما لا يشغل أكثر من 20 بالمئة من حجمه نفس الأمر ينطبق على الساحل البريطاني، فلا تستطيع أن ترى بصورة مُلتقطة بقمر صناعي، التفاصيل التي تراها بصورة مُلتقطة من مروحية تُحلق على ارتفاع منخفض، بينما هواة التخييم سيزودونك بقياسات لتفاصيل لن تستطيع حتى صورة المروحية أن تزودك بها. وفي نفس الوقت لو قُدر لأحد أن يصنع روبوتا صغيرا جدا وأطلق لقياس الساحل لأخذ بالاعتبار تفاصيل ربما أهملها فريق هواة التخييم. وبالمحصلة سنصل إلى نتيجة أن طول الساحل الحقيقي يعتمد على كم من التفاصيل الدقيقة لشكله ستؤخذ بعين الاعتبار وكم منها ستُهمل. وإذا أخذنا كل التفاصيل، مهما كانت ضئيلة، بعين الاعتبار نتوصل إلى نتيجة غير منطقية وهي أن طول الساحل البريطاني غير منته! في حقيقة الأمر تمنعنا فيزياء الكم من ذلك، ففي مرحلة معينة من تقصينا لتفاصيل الشاطئ سنصل إلى مسافات صغيرة جدا يمنعنا مبدأ اللادقة في فيزياء الكم من الحصول على قياس دقيق لها وبالتالي، ولحسن الحظ أيضا، فإن الشاطئ البريطاني يمتلك من حيث المبدأ طولا مُنتهيا يمكن قياسه. تساؤل ريتشاردسون هذا كان من أوائل تجليات ما يُعرف بالهندسة الفركتلية، وللتسمية أصل لاتيني يعني غير منتظم ومجزأ أو كسوريا. مساحات لانهائية لأحجام صغيرة جدا تتميز الأشكال في هذه الهندسة فضلا عن كونها غير منتظمة ومُجزأة بميزة تُدعى “التشابه الذاتي”. فقد اكتشف بنوا ماندلبورت، الإحصائي والاقتصادي البولندي المولد والأميركي الجنسية، أن المنحنيات الفركتلية عادة ما تكون تكرارا لجزء صغير منها، حيث يكفي فهم هذا الجزء بالإضافة إلى نمط التكرار لتصل لفهم عام لكامل المنحني. كان ماندلبورت يدرس مشكلة اقتصادية تتعلق بتوزيع الدخول العالية والصغيرة عندما طُلب منه أن يزور جامعة هارفرد لإلقاء محاضرة، وهناك شاهد منحنيات أسعار القطن حيث توهم للوهلة الأولى بأنها منحنياته التي يدرسها لشدة التشابه. بعدها توصل إلى فكرة أن ما يجعل من هذه المنحنيات متشابهة هو نفس الشيء الذي يجعل شكل البرق في السماء يشبه تفرع الأنهار إلى جداول صغيرة عندما يصل الدلتا، وتفرع أقنية نقل الماء في ورقة النبات. نعم، إنها وصفة واحدة لرسم كل شيء في الطبيعة تقريبا، من الكثبان الرملية إلى تشكلات الغيوم في السماء، ومن تصميم أحشائنا الداخلية إلى أغصان الأشجار وتوزيع الأوراق عليها. أثارت ملاحظات ريتشاردسون ومن بعده دراسات ماندلبورت اهتمام جيل واسع من العلماء في مجالات مُختلفة لسبر أغوار هذه الأشكال الأخاذة وفهمها رياضيا، لينتهي الأمر بفرع مُستقل للدراسة له تطبيقات كثيرة سنحاول أن نتناول البعض منها. هل خطرت لك فكرة أن تحسب المساحة السطحية لإسفنجة؟ بمجرد محاولتك أن تفعل ذلك ستقع بنفس معضلة ريتشاردسون في قياس طول الساحل البريطاني. فوجود الثقوب في الإسفنجة يضاعف من مساحتها السطحية بكل مرة تحاول أن تكون أكثر دقة في تقفي التفاصيل الدقيقة، وفي الوقت الذي تزيد فيه المساحة بصورة مطردة ينقص الحجم باطراد هو الآخر، ففي كل مرة تتضاعف بها المساحة يعني هذا وجود ثقوب أكثر ما يعني نقصانا في الحجم. رياضيا قدم كارل منجر، وهو رياضي أسترالي، نموذجا لتوصيف شكل الإسفنجة باستخدام فكرة الفركتلات. ويعتمد نموذج منجر على عملية تكرارية تقوم بحذف الجزء الوسطي من مكعب معين وتكرار العملية حتى تحصل على شكل يشبه الإسفنجة. وبالإمكان الإثبات رياضيا على أن هذا الشكل يمتلك مساحة سطحية لانهائية، بينما يمتلك حجما صفريا في الفراغ، ولأن المساحات في الطبيعة لا يمكن تقسيمها إلى ما لانهاية بسبب مبدأ اللادقة كما ذكرنا سابقا. فمن غير الممكن الحصول على شكل إسفنجة منجر المثالية في العالم الواقعي بل فقط هو تقريب منته لها، فضلا عن استخدامها في تصميم مُعالجات الكمبيوترات كونها توفر مساحة سطحية كبيرة تنفع بتبريد المعالج، فقد ألهمت تصاميم إسفنجة منجر المعماريين ليخرجوا بتصاميم خلابة تستمد جمالها من التكرار الدقيق وغير الممل للفركتلات. الفركتلات في أجسامنا التصاميم الفركتلية خيار مثالي لتصميم أحشائنا الداخلية كالرئة وجهاز الدوران، لأنها تنفع باستغلال أقل قدر ممكن من الحجم المتوفر لتوفير أكبر مساحة سطحية. وفي حين تتشعب الرئة عند البشر إلى حويصلات صغيرة لتستغل أكبر مقدار ممكن من المساحة السطحية المتاحة لعملية التنفس لتستوعب في المعدل ستة لترات كاملة من الهواء، لا تكاد تأخذ من جسم الإنسان حجما يتناسب مع هذه المساحة. الفركتلات في كل مكان أما جهاز الدوران فمساحته السطحية تُغطي تقريبا 100 بالمئة من جسمنا حيث يمر بجوار كل خلايا جسمنا ولا تكاد تبعد الشعيرات الدموية عن الخلايا إلا بمقدار يصل بالمعدل إلى سمك ثلاث خلايا بشرية، وهي مسافة غاية في الصغر، وفي نفس الوقت لا يُشكل جهاز الدوران إلا 20 بالمئة من حجم الجسم الكلي، تاركا 80 بالمئة من الحجم مُتاحا لباقي الأجهزة الحيوية في الجسم. ومثل الرئة وجهاز الدوران فإن تفرع أوعية الدم في الكلى الشبيه بتفرع الأنهار يخفف من الضغط المسلط على جدران الأوعية. كما أن تصميم الدماغ يستغل مساحة صغيرة نسبيا مُتاحة في تجويف الجمجمة ليملأها بعدد هائل من الخلايا العصبية. لو استمررنا باستعراض تصاميم أحشائنا الداخلية لرأينا بصمة الفركتلات في كل مكان، كيف لا والانتخاب الطبيعي يبحث عن الحلول العملية لاستغلال الموارد المحدودة المتوفرة. ولا تنـتشر الفركتلات فقط في جسم الإنسان بل وأيضا في أجسام كل الحيوانات والنباتات الأخرى، فعند تأملك في أغصان الأشجار في وقت الخريف وهي منزوعة من أوراقها تكاد ترى النسق المُتكرر في تفرعها المستمر وتتحسس نفس الجمال الكسوري الذي يبعثه في نفسك تأملك لمقطع عرضي لكلية بشرية. وعلى الرغم من تعقيدها الظاهري، بالإمكان وصف الفركتلات بمعادلات رياضية بسيطة جدا، كما أن بالإمكان توليدها من هذه المعادلات باستخدام الكمبيوترات الشخصية ببساطة متناهية. وتُعتبر الفركتلات، إلى جانب العديد من الاكتشافات العلمية المبهرة، محطة هامة تُثبت قدرة العلم على فهم الطبيعة ونمذجتها فضلا عن تطويعها لخدمتنا كبشر. كاتب عراقي :: اقرأ أيضاً عمال أجانب غير قانونيين يرحلون عن قطر بلا ندم