×
محافظة مكة المكرمة

الحبس والجلد لمتحرشي فتاتي كورنيش #جدة

صورة الخبر

إن من الخطأ التسرع في إصدار الأحكام في النوازل والأحداث وتصدرها في المساجد والمجالس ومواقع التواصل بغير تأن ودراسة، والتدخل فيما هو من شأن أناس آخرين، لكن الأشد خطأ والأخطر وقوعاً هو حين يتبين لصاحب الرأي أن رأيه خطأ والصواب مع غيره في كل نازلة أو حادثة مستجدةٍ تظهر آراء للعلماء والفقهاء متنبايةً في الحكم عليها بين مبيح ومانع، وبين متشدد ومتسامح، وكلٌّ يتشبث برايته ويتمسك برأيه، وهذا التباين ينعكس سلبًا على بعض السامعين والمتلقين؛ لتدني ثقافتهم في هذا المجال، وحصر الحق في طائفة معينة، وتقديم بعض الآراء على بعض؛ ليس لوضوح حجتها، وإنما لشهرة القائل بها، ولاعتبارات أخرى. ولست بمناقش كل الجوانب المتعلقة بالرأي والقائل به والمتلقي له، في هذه الأسطر، فهو أمر متعذر، ولكني سأناقش سلبية أثرِها الذي يستظل به كثير من النقاد والكتاب وحق لهم ذلك. تلك السلبية هي النكوص عن الرأي والانسلال عن تبعاته من دون تراجع صريح، وبيان خطأ الوقوع فيه! وربما عاد المانع أو المبيح إلى حظيرة الجماهير بانسيابٍ وتدرج، وترك مقلديه يخوضون في الحلال والحرام بناءً على رأيه من جهة، وتمشياً مع فعله المخالف لرأيه من جهة أخرى، وكأن إعلان التراجع في غاية من الصعوبة! وتوصد كل أبواب المعرفة عند الحاجة إلى التراجع، فكأنه لم يمر به قط ما تلقاه العلماء بالقبول من قول عمر رضي الله عنه: "ولا يمنعنك قضاءٌ قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، وهُديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل". وكأن ذلك الناكص عن رأيه خفيةً لم يقل به، وربما عاد ليذم من قال به ويخطئه بطريقة أو بأخرى، والأعجب من ذلك أن تجد بعض المغالطات من هذا الصنف "فيقول ما نفعله غير ما قلنا به فلم نزل على رأينا القديم، وفعلنا إنما هو لكيت وكيت". وهو في الحقيقة عين التراجع والتناقض، وتظهر مغبة الانسلال عن الرأي حين تتعلق المسألة بحقوق الناس وأموالهم وعلاقاتهم أو بدمائهم، فيأخذون برأي من منع أو أجاز، فإذا بهم بعد أمّة يرونه يفعل الفعل الذي منعهم إياه، أو يمتنع عما أباحه لهم، وليس ذلك معيبًا إذا ما تراجع وأعلن تراجعه وصرح ونصح مبينًا خطأ رأيه القديم، وإنما المعيب هو تشدده ابتداء لرأيه ومنافحته عنه، واتهام من خالفه، وتبديع من خطّأه، حتى إذا تبين خطؤه انسل عن رأيه بغير بيان ولا تبيين، ولا اعتذار ولا عذر، وربما دخل في حالةٍ من "اللف والدوران" ليثبت لأتباعه أنه محق في الحالتين. وحري بمن عرف خطر الكلام في دين الله أن يمسك عن القول، ولا يبادر نازلةً ولا حادثةً برأيه حتى يدرسها من جميع جوانبها، فربما كانت فتنة في بلد من بلاد الله فيدخل رأيه فيها ويضرب أهلها بعضهم ببعض من هجر وتبديع وتفسيق، وربما قتل وقتال، فإذا ما وُصف له الحال قال: أنا لم أقل لهم تهاجروا وبدّعوا بعضكم بعضاً. بينما هو من بذر البذرة بينهم وتنصل عن قوله! وكم رأينا وسمعنا من هذا كثيراً ومثيراً، والأدهى من ذلك ما إذا تعلق الأمر بذروة الإسلام وسنامه، فإنا نرى ونسمع كثيراً وكثيراً من المواقف التي قد يكون الدافع لها حسن النية، وجم الغيرة، لكنها مواقف فردية لا تعبر عن هيئة شرعية ولا جهة مسؤولة، فإذا ما جاء القرار ممن يخصه الأمر رأيت المتنصلين والناكصين عن آرائهم، وسمعت اتهام الآخرين بالعجلة والتسرع، وهو الأمر الذي وقعوا فيه لكنهم تنصلوا منه بدهاء وذكاء، وما أحراهم بقول القائل: لا تَقعُدَنَّ وَقَد أَكَّلتَها حَطَباً تَعوذُ مِن شَرِّها يَوماً وَتَبتَهِلُ ونرى في كثير من الفقهيات والمسائل آراء يتنصل عنها أصحابها، ويدخلون في دائرة الصواب الذي يلوح لهم بعد مدارسة أو بحث، لكنهم لا يبينون ما أسلفوا من خطأ كي يجتنبه الناس ويستبصرون به، وهذا ينافي قول الحق: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وهذا يشمل كبار المسائل وصغارها، ولا سيما ممن وقع له بين الناس شهرة، فلا يليق به التنصل الصامت، وقد كان جزءا كبيراً من موجة وإعصار وقع في الناس في مسألة من المسائل. وبمثال آخر ربما كان أوضح في الدلالة، وأبين في العبارة، ما وقع من أخذ ورد وجزر ومد في مسألة التصوير الفوتوغرافي أو التلفزيوني، فكثير من مشايخنا وقفوا وبصراحة ووضوح موقف المانع، بل وأخذوا جانب التشديد على المخالف، لكن مع الأيام والليالي وجدنا كثيراً منهم يتراجع تراجعًا صامتاً، فيظهر على شاشات التلفاز، ويتصور في المحاضرات وغيرها، لكنه لم يفند خطأه السابق ويعتذر لمن أساء إليه ويبصّر أتباعه بقوله: "كنا أخطأنا" كما كان حال الأئمة والعلماء في تراجعاتهم وعودتهم إلى الرأي الصواب الذي استجد عندهم. ولذلك نجد كثيراً من هؤلاء الأتباع يحتج على تحريم التصوير بفتوى الشيخ فلان، فإذا قيل له ها هو ذا الشيخ يظهر على التلفاز ويتصور، قال: هذه ضرورة وإكراه! فانظر كيف قاده الجهل والتعصب إلى مقولته، ولو أن الشيخ تراجع تراجعًا بيناً ونصح نصحًا واضحاً لما احتجنا إلى مجادلته، ولكان التراجع عونًا لأصحاب الرأي الصائب في الدعوة إلى الله. إن من الخطأ التسرع في إصدار الأحكام في النوازل والأحداث وتصدرها في المساجد والمجالس ومواقع التواصل بغير تأن ودراسة، والتدخل فيما هو من شأن أناس آخرين، لكن الأشد خطأ والأخطر وقوعاً هو حين يتبين لصاحب الرأي أن رأيه خطأ والصواب مع غيره، فيحاول حينها أن يتبرأ من رأيه ويتنصل عن قوله ويغني عن ذلك كله "كنا أخطأنا".