×
محافظة المنطقة الشرقية

40 طفلاً وطفلة يشاركون في معرض “التاجر الصغير” الذي تنظمه “العمل والتنمية الاجتماعية” في حي البجيري بالدرعية

صورة الخبر

د. يوسف الحسن ننشد التسامح، ليس فقط كلحظة اعتراض على فكر مغلق ظلامي، إنما لتأسيس وعي قيمي وثقافة ضرورية لإنتاج شخصية مواطنة سوية، قادرة على التفاعل الإيجابي مع العصر ومتغيراته وتحدياته يحتفل العالم في مثل هذا اليوم بيوم التسامح، حيث تنظم فيه أنشطة وبرامج خاصة لنشر وتعزيز رسالة التسامح في المجتمعات الإنسانية، وباعتبار أن السلام في العالم لا يقوم من دون التسامح، ومن دون السلام لا تقوم تنمية ولا ديمقراطية، فقد قدم علماء مسلمون كبار السلم على العدل. وتزداد الحاجة في الوقت الراهن إلى تعزيز فكرة التسامح في وطننا العربي، في ظل تفاقم ظواهر الكراهية والتطرف والعنف، وويلات حروب عبثية، ما زالت مشتعلة في أكثر من مكان، وراح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، وجلبت أحزاناً وشقاء ودماراً يعجز عنها الوصف، فضلاً عن صعود اليمين المتطرف إلى منصات الحكم والتشريع في عدد من العواصم العالمية، ولعل واشنطن ليست آخر هذه العواصم. لا أمِلّ من مواصلة الكتابة والحوار في سؤال التسامح، والانغماس في فلسفته وأبعاده، وثقافته ومعانيه المعرفية والحقوقية والسياسية، وأستشعر أنه ما زال يحمل غموضاً في أذهان العامة والرأي العام، وخلطاً في فهمه، حيث يبدو في تفاسير لبعض المنظرين له والدعاة، أنه لا يخرج عن إطار فضائل المغفرة والصفح، بمعانيها المعروفة، وفي ثقافتنا التراثية الإسلامية، وهي تفاسير مشوشة تجانب الصواب، وتحمل معاني لا علاقة لها بجوهر فكرة التسامح وفلسفته وآلياته. هناك حاجة ماسة وضرورة ملحة لفهم عميق لمصطلح التسامح، الذي أصبح قضية محورية في خطابنا السياسي والتربوي والثقافي، وفي منتدياتنا ومجالسنا، وصولاً إلى تأسيس وزارة خاصة بالتسامح، وهي خطوة جريئة ومتقدمة وغير مسبوقة في عالمنا العربي والإسلامي وتطرح أمامنا تحدي تأصيل مفهوم التسامح وتعزيزه في سلوكياتنا وثقافتنا، ومناهجنا التعليمية، ومنظومة قيمنا المجتمعية، وبناء شراكات فاعلة بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والمجتمع الأهلي، ومؤسسات التنشئة والإعلام، بهدف إثراء بيئة المجتمع وفضاءاته بقيم التسامح وثقافته. لقد دخل مفهوم التسامح وفلسفته في العديد من الوثائق والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خلال القرن الماضي، ومن أبرز هذه الوثائق العالمية، إعلان المبادئ بشأن التسامح الصادر عن منظمة اليونيسكو في عام 1995، الذي أكد على أن العنف يولد أولاً في عقول البشر، وطالب دول العالم، ببناء حصون التسامح في عقول الناس، وتأصيل مفهوم التسامح كمنظور إنساني وأخلاقي، وتعزيزه بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر، والمعتقد، وقبول الآخر المختلف والرأي الآخر، والتقدير للتنوع الثري للشعوب والثقافات. المسألة في مجتمعاتنا العربية، هي كيف نفهم مصطلح التسامح في ظل هذه الاصطفافات والخصومات السياسية والمذهبية والمعرفية والتعصب والعنف والإقصاء والتجريم؟ إن التسامح وهو السلوك الذي يقبل الآخر المختلف، ويحمل في طياته معاني الصبر والنسبية المعرفية، وامتلاك فضيلة الإصغاء وتفهم منطق الآخر. وهو أيضاً التواصل، من أجل الحوار الإنساني والتبادل والتعارف ويكون صاحبه مستعداً للاعتراف بأخطائه، كما يقول الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب. ولا يعني مفهوم التسامح، معاني العفو أو الصفح أو المغفرة، وهي معان تتم بين جناة وضحايا، إنه مفهوم آخر، لا فوقية فيه، إنما تحكمه مفاهيم مفتاحية، من أهمها، مفهوم الخلق الواحد المتساوي للبشر، الذي تترتب عليه فضائل حسن التعامل والإنصاف، ومفهوم حُرمة الكرامة الإنسانية لبني آدم، الذين فضلهم الله على كثير ممن خلق، وسخر إمكانيات العالم ومخلوقاته لهم، وحُرمة حقوق البشر تجاه بعضهم البعض، ومفهوم الرحمة أو الرأفة التي يتوجب على الفرد أن يسعى لبلوغها في علاقاته مع الآخر، والحوار معه بالتي هي أحسن، ومفهوم العدل في التعامل بين الناس، والاستقامة في النظرة والتصرف، ومفهوم التعارف والسعي للتعاون لإعمار الأرض. والتسامح يعني أيضاً: الإقرار بأن البشر مختلفون في ثقافاتهم وعقائدهم وأعراقهم وألسنتهم وسلوكهم. فإذا غاب التسامح في مجتمع ما، حضر التعصب والعنف والجمود والانغلاق، ومنع حق التفكير والتعبير والاجتهاد. وفي حضرة التسامح يتعزز التعايش بين الناس والقدرة على تحمل الرأي الآخر، وتقبل احتمال وقوع الخطأ، وتشاع قيم التشاور والتعارف والسلم. إن وحدة المجتمع وهويته الوطنية وتماسكه، لا تنفي التنوع والتعددية تحت سقف الوطن، ويتطلب الأمر إدارة عادلة للتنوع ويصبح التسامح بالتالي، ليس مجرد واجب أخلاقي، وإنما هو واجب سياسي وقانوني ومسؤولية. إنه الوئام والتعايش في سياق الاختلاف ولا يعني التنازل أو التساهل بل هو ممارسة ومسؤولية، وموقف إيجابي، فيه إقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الإنسان. لقد عرفنا في فكرنا العربي والإسلامي تراثاً مهماً في التسامح مؤصلة معانيه في آيات قرآنية، ودستور المدنية كأول وثيقة مدنية قائمة على التعددية وأول عقد سياسي يضمن حرية العقيدة ويحميها، كما عرفنا العهدة النبوية لنصارى نجران، والعهدة العمرية وغيرها. *** إذن، نحن لا نتحدث عن التسامح، كمعنى أو كقيمة مستحبة، إنه معنى ضيق للغاية، إنما نتحدث عن قواعد سلوك أخلاقي وحقوقي، يوجه حياتنا على جميع المستويات لا سيما ما يتعلق منها بالعلاقات بين أبناء الوطن الواحد. ننشد التسامح، لذاته، باعتباره قيمة عليا، وليس لأن مجتمعاتنا الخليجية تضم أكثر من مائتي جنسية مختلفة في ألوانها وعقائدها وألسنتها وثقافاتها. كما ننشد التسامح، ليس فقط، كلحظة اعتراض على فكر مغلق ظلامي، ومسلكيات إلغاء وتطهير عرقي ومذهبي، وهويات فرعية متقاتلة، إنما ننشد التسامح، لتأسيس وعي قيمي وثقافة ضرورية لإنتاج شخصية مواطنة سوية، قادرة على التفاعل الإيجابي مع العصر، ومتغيراته وتحدياته، والتعامل مع تحولات جذرية، أثرت في البنية التقليدية للمجتمع. تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية وديمغرافية وتقنية... إلخ. الإيقاع المتسارع للتغيير في مجتمعاتنا، يضعنا أمام نظرة جديدة لحياتنا ولنسق قيمي ثقافي، يعزز ثقافة التسامح والاعتبار بسنن الله في الخلق والحوار بالتي هي أحسن.