بما أن ظاهرة الحب شديدة الشبه بعضها ببعض في كل مكان، فلماذا لا يمكننا الحصول على قصيدة مكتوبة ببرنامج حاسوبي نضع في داخله الكثير من قصص الحب؟ يسأل ديونيسيو كانياس، الناقد الإسباني، ثم يعلق على ذلك بأن الحاسوب لا يمكنه التخيل. وعند ما نحور سؤاله قليلاً ونطرح سؤالاً مشتقاً منه: إذا كانت قصص الحب متشابهة، فما هو الجديد الذي يمكن للشاعر المعاصر كتابته كأفكار وصور ومجازات عن حالته العشقية؟ من الجواب، أنطلق إلى تناول ديوان الشاعر علي النحوي «أنثى النّرد» بالقراءة. فبالرغم من تشابه حكايا العشق ومواقفه، إلا أن ما يميز بعضها عن بعض هو التوتر الداخلي الذي يستشعره المحب الشاعر لحظتها، فهذا التوتر هو نتيجة للطوفان الذي يستشعره النحوي في داخله ويترجمه بطريقته: «بي سيل طيشٍ، فاتسع لي كي أفيضَ/ وحين أطغى من هواكَ، أقم على طوفانيَ المغرور سد». لكن عند ما يفيض به العشق، ينتقل من الطلب إلى التهديد، وإشعار محبوبته أن ذلك فوق طاقته على التحمل «وشى بي الحب في عينيك فاحترسي/ وأنتِ أجمل من طيشي ومن هوسي». هكذا هو النحوي عند ما يحتفي بعواطفه حيث ليس هناك حدود منظورة يمكن أن تقف عندها مشاعره في الحب. في هذه القراءة ابتدأت بمفهوم الحب في الديوان، وما اخترته لا يمثل سوى عينة منه، فنسبة الشعر العاطفي في قصائد الشاعر تفوق باقي المواضيع التي يطرقها، وليس في هذا الديوان فحسب، إنما يطال كذلك ما يكتبه منذ فترة ليست بالقصيرة من خلال الأمسيات الشعرية وبرامج التواصل الاجتماعي. فالنشر خارج الديوان، سؤال لطالما كان يلح على أصدقاء الشاعر، فبعد ربع قرن من العلاقة الوشائجية مع القصيدة، يقرر الشاعر علي النحوي أن الأوان قد حان حتى يخرج بعض من أشعاره في ديوان! إلى هنا ونحن يمكننا أن نتفهم وإن كان بصعوبة إحجامه عن النشر الورقي لأنه يسيل شعراً بشكل يومي في وسائط التواصل الاجتماعية وقبلها في المنتديات الأدبية الواقعية ومحافل الشعر في الأمسيات المحلية والخليجية. لكن بدل أن يخرج نتاجه الشعري كمجموعة كاملة يقتصر منشوره الأول على واحد وعشرين نصاً فقط، فهو الأمر الذي نتجادل معه حوله. فبتصفح سريع على مواضيع الشعر المطروقة والمنتقاة نجدها وكأنها أشبه ما تكون «ببليوجرافيا» شعرية وعينات من مواضيع قد سال فيها الكثير من حبره، لكنه أرتأى بأن هذه النصوص هي من تمثل تراثه الشعري بأكمله. لذلك ونحن نقارب هذه المجموعة من النصوص، علينا قراءتها بحذر خصوصاً وأن تاريخ النصوص غير مثبت في معظمها، كتذييل في أسفل النص حتى نحكم على مفاصل تطورات تجربته الشعرية. أما وقد اختار هذه النصوص فليس بمقدورنا سوى مقاربتها مجردة ومفصولة عن ذاته كما أرادها أن تكون. فعند ما نجتاز مسافة العشق والتي احتلت ثلاثة أرباع الديوان إلى باقي مواضيعه الشعرية، نجد أن النصوص الثمانية الباقية قد تنوعت على شكل بوح ذاتي للشاعر وقصائد إخوانية وقصيدة وطنية وواحدة يستحضر فيها ذكرى والده. لهذا وفي هذا الاستعراض السريع للديوان، يستوقفني نص «تعب..» ويحرضني على أن أُشاكس «البنيويين» في رؤاهم بعزل المبدع عن نصه حيث لا يمكنني مقاربته سوى بذاتية تنحاز إلى ذاتية الشاعر وعجزي عن فصل ذاتي عن موضوعه. فعند ما صنفت هذا الديوان كببليوجرافيا لكامل منجز الشاعر النحوي، فهذا النص يختزل نصوصه بتمثيله لمواضيعها الشعرية قاطبة. يبتدئ النص ليكشف عن طبيعة معاناة الشاعر في الحياة ويرجعها إلى قضايا فكرية «تعبت مراكب ساعدي من الرحيل!!/ وتعبت/ من فوضى الحياة.. من الشّراعِ.. من الجهات الستِ.. من وجع المسافةِ.. من بني قومي ومن زادي القليل». فالمراكب المترحلة هي في معناها تحولاته الفكرية التي تتباين عن مفاهيم العقل الجمعي لمجتمعه، والفوضى كناية عن الحراك الثقافي الذي لم يستقر بعد على محددات جديدة في مخاضه. لذلك يأتي المقطع الثاني ليكشف أكثر عند ما اتخذ من الكتابة رمزيته «تعبت خيولُ أصابعي من كثرةِ الركض المناوئِ للرمال وللمضاميرِ التي أعيى سعيرَ ترابِها باقي الصهيل!!». ومن جهة أخرى يبوح بباقي متاعبه وهي عبارة عن هموم عائلته والمحيطين به من تداعي تلك الهموم الثقافية وانعكاسها عليهم: «تعبت مرايايَ التي كانت تراقب مقلتي ولونيَ القمحيَّ والخال الذي أغرى النجوم بوجنتي اليمنى وأجرى في دمايَ السلسبيل!!». فالمرايا تأتي برمزية القلوب المشفقة والمحبة التي ساءها ما يلقاه من عنت وشقاء في مسيرته حيث يرى فيها انعكاس لمعاناته. لكنها قلوب تعبت أيضاً ولم تغادر موقف الوفاء: «تعبت حبيبتي التي ما غادرت قلبي ولا التفتت إلى غيري ولا نامت وألفُ صبابةٍ في جيبها تجتاحُني وتذيبني عنقودَ حبًّ في محياها الأصيل!!». ويأتي المقطع الأخير ليعيدنا إلى مساحة العشق التي طالما تغنى بها الشاعر وتبناها كقيمة جمالية تستحق أن يوقف إبداعه عليها: «وتعبت/ من عشقٍ يسافرُ في فجاجِ الأَرْضِ يطويها بقلبي والضّنى يرجوهُ: يكفي يا جنونُ ويا هوىً هوّن عليكَ إذا بهم ضاقَ السبيل!!!». في النهاية وبعد مرورنا على هذه الملامح في شعر علي النحوي ومواضيعها، ليس لنا سوى التوقف عند ملاحظة أخيرة في الأسلوب الشعري وشكل النص عند ما يتخذ من التفعيلة قالبه ويبتعد عن القافية. ففي هذه النقطة يتباين شكل الخطاب الشعري ليفسح مساحة واسعة من البوح عند تبنيه التفعيلة كاختيار أسلوبي، بينما يبرز اشتغاله أكثر على اللغة من المعنى في الشعر المقفى مع أهمية ذلك لأنه يرفع الشعر عن مستوى اللغة اليومية ويطمح إلى تجاوز الواقع المشترك حسب أوغيست ويلهيم شليغل.