طالما شكَّل الموقف الروسي في تعاطيه مع الأزمة الدائرة في سوريا مسألة عصية عن الفهم لدى عديد من الأطراف والدوائر العربية المهتمة بما يجري على الساحة السياسية السورية. وأعتقد بأن مرد ذلك هي القواعد العريضة والثابته لآلية التعاطي السياسي العربي مع عديد من القضايا السياسية الشائكة. فالمواطن العربي على عمومه ينطلق في رؤيته السياسية في الغالب من منطلقات عاطفية. بل ويتسم على الدوام في تعاطيه مع الأمور المتنوعة بنظرة ذات مسحة إنسانية لعل مردها التركيبة السيكولوجية للشخصية العربية التي يلعب الدين دوراً مهماً في تشكيل ردود فعلها ونظرتها لعديد من الأمور والقضايا. وهو الأمر الذي دفع بعديد من المهتمين بفهم بواعث اتخاذ القرار السياسي العالمي؛ والخبراء السياسيين العالميين إلى قولبة فكرة تتعلق ببواعث اتخاذ القرار السياسي العربي في عمومه تعطينا فهماً أوضح عن التقييم العالمي لعديد من القرارات السياسية العربية وهذه الفكرة مفادها: أن العرب عاطفيون في السياسة. فالموقف الروسي في اعتقادي منذ بداية انطلاق الأزمة الدائرة في سوريا إلى حينه، كان ينطلق من فكر سياسي يتسم ببعده الاستراتيجي ونظرته العميقة لعديد من الأمور العالقة على المسرح السياسي السوري التي تُعد روسيا أحد اللاعبين الرئيسين فيه. وربما لو عدنا بالذاكرة للخلف لاتضحت الصورة أكثر، إذ في الوقت الذي كانت أغلب الدول العربية ترتمي في أحضان المعسكر الغربي وتجاهر بعدائها للنظرية الماركسية المعادية للدين وللبلاشفة وتفسيرهم المادي للتاريخ، كان حافظ الأسد يراهن على المعسكر الشيوعي ويعمل جاهداً للتقرب إليه. فكان تسليح الجيش السوري عملية موكلة بالمعسكر الشرقي . والخبراء الروس الموكل إليهم تدريب عناصر الجيش السوري يتمتعون بوجود استثنائي على الأراضي السورية. وفتحت الأسواق السورية للمنتج التجاري السوفييتي، ورسي عدد من مشاريع البنى التحية العملاقة على الشركات الروسية؛ وهكذا استطاعت سوريا أن تجر المعسكر السوفييتي إلى حظيرتها، وأن تضمن من خلال توثيق العلاقات التجارية والعسكرية مع روسيا بعداً استراتيجياً داعماً لها على طول الخط لا يمكن إغفاله. كما أن سوريا من جانب آخر شكلت للمعسكر الشيوعي وسيلة تمكنه من إيجاد موطئ قدم له في منطقة الشرق الأوسط ؛ يمكّنه من الولوج إلى هذه المنطقة المهمة من العالم؛ بالإضافة لتوفير مساحة وقاعدة له يستطيع من خلالها الانطلاق لممارسة العمل السري – الجاسوسية والجاسوسية المضادة ومجابهة المعسكر الغربي في مرحلة ما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة. في حين كانت أغلب الدول العربية من خلال مقرراتها الدراسية تلقِّن الطلبة قاعدة واحدة وهي أن الاتحاد السوفييتي يتبنى أيدلوجية معادية للدين الإسلامي، وأن السوفييت يرفعون شعار «الدين أفيون الشعوب»، الأمر الذي أوجد عداءً وتوجساً للمواطن العربي على مستوى الفرد والدولة ضد كل ما له علاقة بالاتحاد السوفييتي، ودعاه للابتعاد عن هذا الكيان الكبير والمؤثر على الساحة السياسية الدولية. وباستثناء محاولة بسيطة للتقرب من المعسكر الشرقي مارسها جمال عبدالناصر أثناء مرحلة عنفوان الصراع العربي الإسرائيلي وأجهضها السادات بطرده الخبراء الروس إبان حرب أكتوبر 1973م فإن الموقف العربي ضد السوفييت قد بقي على شبه إجماع بوجوب مقاطعة هذا الكيان الروسي والمراهنة على الغرب، وهو الأمر الذي لم يدرك مغبته الساسة العرب سوى عقب حرب الخليج الثانية 1990م . وهو الأمر الذي أعتقد جاداً بأنه قد حرمهم من الاستفادة السياسية من مكاسب الصراع الدولي بين المعسكرين الكبيرين وفوت عليهم عديداً من الفرص التي كانت لربما ساهمت في تغيير قواعد اللعبة وفي إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط على غير ما هي عليه الآن. إن سوريا بحكومتها البعثية الراهنة كانت ولاتزال تمثل خياراً استراتيجياً لروسيا في منطقة الشرق الأوسط ، والساسة الروس وإن مورست عليهم ضغوط اقتصادية وجرت محاولات لجرهم باتجاه الموقف السياسي الغربي في تعاطيه مع الأزمة الدائرة في سوريا، إلاَّ أن تفكيرهم السياسي العقلاني والمبني على تقديم المصلحة الاستراتيجية الروسية العليا سيظل هو من يُملي عليهم خيارهم على الدوام.