يصح أن نطلق على رجب طيب أردوجان صانع الحيرة السياسية ! أو : رجل المواقف المتناقضة، أو اللاعب على كل الحبال، أو اللامنتمي، أو المنتمي إلى كل التيارات؛ ففي شخصيته ملامح من كل شيء، ستجد فيه روحا إسلامية قوية، وبعداً صوفياً عميقاً، وستجد فيه شخصية ليبرالية ميالة إلى الغرب، وستجد فيه حباً للتاريخ العثماني القديم وسعياً إلى إحيائه على الرغم من «أتاتوركيته» التي لا يخفيها أو لا يستطيع إلا أن يظهرها تطلباً لحب ملايين من الأتراك الذين لا زالوا يمجدون كمال أتاتورك. وتجد فيه تعاطفا مع جماعة الإخوان المسلمين؛ فكيف تجتمع في هذه الشخصية كل هذه المتناقضات؟! يدافع عن العرب والمسلمين ويقيم علاقة عميقة مع إسرائيل تتكئ على اتفاقات عسكرية واقتصادية، ويحارب الإرهاب؛ ولكنه يدعم «داعش» ويمنح الأكراد اتفاقية سلام؛ لكنه يبيدهم الآن حين واتته الفرصة ولا يسمح لهم بمنطقة حكم ذاتي، ويستضيف على أراضيه قواعد أمريكية ويتطلع إلى أن تنضم تركيا إلى دول الاتحاد الأوربي؛ لكنه يقف أمام سياسات أوربية كثيرة موقف الناقد المتحفظ؛ فإلى أي تيار فكري أو جماعة أو فكر تنتمي هذه الشخصية التي تلعب على كل الحبال؟! أردوجان ليس داعشيا ولا يمت للتفكير الرافض للحياة الذي تنهجه داعش بصلة؛ بل إن في شخصيته من مقومات الانفتاح والتفاعل مع إيجابيات الحياة الحديثة ما يمكن أن يجعل من تركيا جزءا لا يتجزأ من أوروبا لو سمحت له التيارات المتصارعة من حوله داخل تركيا وخارجها بذلك. شخصية رجب طيب أردوجان تمثل مساره السياسي تماما ولا تختلف عما يفكر به؛ بل إنها تمثل خط حزب «العدالة والتنمية» الذي أسسه مع رفيق دربه عبد الله غول وشخصيات سياسية أخرى عام 2001م ووصل إلى السلطة بانتخابات نزيهة عام 2002م، وخير ما يفسر سلوك أرودغان السياسي هذا التصريح الذي أدلى به عبد الله غول الرئيس السابق للجمهورية التركية «في حزب الرفاه كانت هناك مجموعات تطالب بحكم الشريعة. الرفاه لم يمثّل القيم المحليّة السائدة... نحن نؤمن أنّ الحداثة وكون المرء مسلمًا يكمّلان بعضهما البعض. نحن نقبل القيم الليبرالية الحديثة، وحقوق الإنسان، واقتصاد السوق». لقد تخرج غول وأردوجان في مدرسة حزب «الرفاه» الذي أسسه المهندس نجم الدين أربكان، ولكنهما اكتشفا أن الخطاب الديني وحده غير كاف لاستمرار الحشد الجماهيري؛ فلا بد من إنجاز كبير على الأرض يثبت قيم الحزب ويكون شاهدا على تفوقه في العمل قبل التنظير، ورأيا أن احتذاء النموذج الغربي كما فسره غول بـ»الليبرالية» واقتصاديات السوق الأوربية أقرب الطرق إلى النهضة؛ لتقديم نموذج جديد لتركيا المعاصرة التي تجمع بين الانتماء الإسلامي في التكوين والأسلوب الغربي في إدارة الحكم، والحداثة الأوربية المعاصرة في طرائق الحياة. وأجد أن من الضرورة الإشارة إلى المحضن الأول لطيب أردوجان الذي تأسس فيه روحيا وتشبع بمعطياته ليضيف إليه لاحقا ما اكتسبه في مخاضاته الفكرية والسياسية من تجارب حداثية معاصرة؛ ذلك المحضن هو المدارس الدينية التي درس فيها القرآن الكريم وعلوم الشريعة والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي؛ وتسمى بـ«مدارس الأئمة والخطباء» وفيها اكتسب التكوين الحقيقي الذي منحه القوة والصلابة، وتعلم فيها فنون الخطابة والإلقاء والتأثير. ولتأكيد تفوق الرؤية التي ينطلق منها حزب العدالة والتنمية سعى إلى أن يكون الشق الثاني من اسم الحزب جليا وواضحا للعيان؛ فقفزت تركيا خلال عشر سنوات فقط من دولة مدينة إلى دائنة، ومن دولة تهجر أبناءها لطلب الرزق إلى دولة تستقطب الآخرين للبحث عن فرص استثمارية في تركيا. هذا هو الجانب الإيجابي في سيرته السياسية؛ لكي لا يفهم أن الأحكام النقدية التي سأخرج بها عليه لاحقا منحازة أو غير عادلة. في المقالة القادمة تحليل لمواقفه المتناقضة.