حينما تُعْوِز بعضَ المؤلِّفين شواهدُ التراث العربي، أو غير العربي، على ما يأتفكون من دعاوَى، تراهم ما ينفكّون ينقِّبون عن أيِّ ومضة، مهما تكن باهتةً عابرة، لتضخيمها وإبرازها، مستنَدًا موهِمًا بتأييد التراث لمقولاتهم. وهذا ما سلكه كمال الصليبي وأحمد داوود وزياد منى) في كتبهم، كلٌّ بحسب وجهته، والمكان الذي قرَّر أن يُحِلّ (بني إسرائيل) فيه. يفعل ذلك الأخير(1) كما فعله صاحباه من قبل، فيقول، مثلًا: «لاحظَ (الأزرقي) في مؤلَّفه «أخبار مكة» أنَّ نساء اليهود كنَّ ينزعن أحذيتهن بمجرد الاقتراب من الوادي المقدس «طوى» قرب مكَّة المكرَّمة.» ولم يوثِّق موضع ورود هذا الخبر من كتاب (الأزرقي). حتى إذا رجعتَ إلى كتاب الأزرقي وما ورد فيه عن (ذي طُوَى)، لم تجد ما أشار إليه مِن فِعل «نساء اليهود»، فضلًا عن إقحامه صفة «المقدَّس» على اسم الوادي، من عنديَّاته. وإنَّما ستجد خبرًا، أشار محقِّق الكتاب إلى ضعف سنده، عن سلوك بعض «الإماء»، تحديدًا، من (بني إسرائيل)؛ حيث جاء تحت عنوان «تعظيم الحَرَم وتعظيم الذنب فيه والإلحاد فيه»، رواية عن (عبدالله بن الزبير)، «قال: إن كانت الأَمَة من بني إسرائيل لتقدم مكَّة، فإذا بلغت ذا طُوى [ولم يقل: «الوادي المقدَّس طُوَى»]، خلعت نِعالها، تعظيمًا للحَرَم.»(2) فهذا العمل إنَّما هو تعظيم للحَرَم، إذن، لا للوادي نفسه. ثمَّ هَبْ أنَّ هذا الخبر صحيح، بل هَبْ أنَّ عوامَّ اليهود جميعًا كانوا يقدِّسون وادي ذي طُوَى هذا، ويخلعون نعالهم فيه، وهَبْ أنَّهم يفعلون ذلك اعتقادًا- من خلال اسمه- أنَّه وادي (موسى)، فإنَّه لا يعدو خبرًا، لا يُبرهن على شيءٍ في ميدان التاريخ؛ إذ ما أكثر ما يعتقده العوامُّ، وما أغرب ما قد يفعلون! ولو اتُّخِذت من ذلك وأمثاله الأدلَّةُ التاريخيَّة، لكان في منتوجاته العجب العجاب. وبطريقةٍ من الشعوذة اللغويَّة، أراد المؤلِّف أن يُثبت أيضًا أنَّ (بلاد الفونت) الواردة في الكتابات المِصْريَّة تُشير إلى أرض العرب؛ فانبرى قائلًا: «وفي عملية البحث عن موقع (بلاد الفونت) فمن المفيد الاستعانة باللغة العربية؛ فباستشارة القواميس المتخصِّصة نعرف أن العرب عرفوا (أَفْلت) و(فَلَيْت) كاسمي عَلَم.»(3) ولم يوثِّق هذا الادِّعاء الذي ذكر أنه استشار فيه القواميس المتخصِّصة. أمَّا الوارد حقيقةً في هذين الاسمين، فهو أنَّهما يستعملان اسمَين من أسماء الناس: (أَفْلت) و(فُلَيْت)، لا من أسماء الأماكن.(4) وأضاف المؤلِّف: «كما أنَّ «الفلت» و«اللفت» هو الموت».(5) وابحثْ في كلِّ معجمات الضَّاد، ثمَّ خبِّرنا: هل وجدتَ أن «الفلت» و«اللفت» يُطلَقان على الموت هكذا؟! كلُّ ما ستجده أنهم يَصِفون مَن ماتَ بغتةً بأنها أُخذِت نفسُه فَلْتَةً، كما يُوصف بذاك كلُّ عملٍ مفاجئ. ويُقال لموت الفَجأة: الموتُ اللَّافِت، والفَاتِل.(6) فهو، إذن، وصفٌ لهذا النوع من الموت خاصَّة، لا اسمٌ للموت نفسه. ولكن لماذا يتكلَّف صاحبنا هذا التمحُّل اللغوي؟ ذاك لكي يقول في النهاية: إن (بلاد الفونت)، الوارد ذكرها في «العهد القديم»، هي (حضرموت)! وهذا يقتضي أن (حضرموت) كانت تُسمَّى لدَى العرب: بلاد (لافت)، أو (فاتل)! وهذا ما لم يسمع به أحدٌ قطُّ من الجنَّة والناس! ولكن لِـمَ لا يقول، مثلًا: إن (بلاد الفونت) هي: (بلاد الفلَّاتة) في (أفريقيا)؟ نضرب هذا جَدَلًا إزاء تكلُّفة لالتماس المعنى في (آسيا)، لا في أفريقيا، وفي (جزيرة العرب) تحديدًا، لا في غيرها. وشبيهٌ بهذا زعمه أن مكانًا توراتيًّا اسمه «مدمنة» يشير إلى قبيلة عربيَّة اسمها «الزبالة»، في (وادي الحَجْر)! قال: لأن «الاسم [مدمنة] يعني بالعربيَّة الزبالة!»(7) لكن من قال إن اسم القبيلة المشار إليها يعني: «مزبلة»؟! ومن أنبأه أنَّ كلمة «مدمنة» ليست مستعملة إلى اليوم في العربيَّة بمعنى: «مزبلة»؟ بل مَن ذا أوهمه أنَّ أسماء القبائل أو الأماكن تُترجم من لغةٍ إلى أخرى؟! تلك أسئلةٌ بدهيَّة، لكنها لا تخطر على بال مَن جعل شغله الشاعل الاحتيال لتلفيق الأسماء، لفظًا أو معنى، لترحيل (بني إسرائيل) من أماكنهم التاريخيَّة، المعروفة في كلِّ الشرائع والتواريخ، إلى جنوب شِبه الجزيرة العربيَّة. على أن من ضمن إشكالات تلك البحوث التي جعلتْ وَكْدَها ترحيل التاريخ الإسرائيلي إلى الجزيرة العربيَّة أنَّ أصحابها قد طُمِس على أذهانهم تاريخيًّا. ذلك أنَّهم حين يقرؤون مصطلح «العرب» أو «جزيرة العرب» ينصرف تصوُّرهم إلى ما يُسمَّى اليوم (المملكة العربيَّة السعوديَّة) وما جاورها في (اليَمَن) و(الخليج العربي). مع أن «العرب» كان لهم وجودٌ تاريخيٌّ قديمٌ جِدًّا خارج هذه الحدود. واصطلاح «جزيرة العرب» لا يشير قديمًا إلى الحدود السياسية الحديثة للسُّعوديَّة واليَمَن، بل تدخل فيه أجزاء من بلاد (الشام) و(العراق). ولذا، فليست كلّ إشارة إلى «العرب» إشارة إليهم في غَرب السعوديَّة أو وسطها، بالضرورة، فضلًا عن جنوبها. ولا كلُّ إشارة إلى «جزيرة العرب» إشارة إلى ما يدخل اليوم ضمن حدود السعوديَّة بالضرورة. ولقد ظلّ هؤلاء الباحثون ينهجون نهجين متناقضين. فهم إذا لم يعثروا على اسمٍ توراتيٍّ في أسماء المواضع، تكلَّفوا استحلابه من حروف الأسماء في جزيرة العرب، أو من معجمات اللغة، كما رأينا في البحث عن (بلاد الفونت)؛ بحُجَّة أنهم لم يعثروا عليه في (فلسطين) أو بلاد الشام أو مِصْر. وإذا وجدوا الاسم في فلسطين أو بلاد الشام أو مِصْر، وواضحًا لا شِيَة فيه، أصرُّوا على أنه ليس بالمقصود، بل المقصود مكانٌ ما في جزيرة العرب. وهم واجدون معجمًا تاريخيًّا زاخرًا جِدًّا بالأسماء في جزيرة العرب؛ لأن العرب كانوا مغرمين بالتسميات، أو مضطرين إليها، فلكلِّ حجرٍ في جبلٍ أو رملةٍ في سهل اسم، على امتدادٍ شاسعٍ شاسع، ينهلون منه ما شاءوا من التأويلات، التي لا تقوم على برهان، ويصنِّفون المصنَّفات. فـ(دمشق) لديهم ليست بدمشق المعروفة، والأردنّ ليس بالأردنّ، ولبنان ليس بلبنان، وفلسطين ليست بفلسطين، والفُرات ليس بنهر الفرُات، ومِصْر ليست بمِصْر، بل هي أسماء شبيهة في الجزيرة العربيَّة، ولو لم يَعْدُ الشَّبَه بين الاسمَين حرفًا واحدًا. ضاربينَ عرض المكابرة بالتفسيرات التوراتيَّة، وبالتاريخ العربي، وبالتاريخ غير العربي. في الوقت الذي لا يستندون في هذه المغامرات العِلْميَّة المريعة على أدلَّة، ولو معقولة، فضلًا عن أنْ تُلزمهم بأن يأتوا بأدلَّةٍ تصمد للنقاش العِلْمي الجادّ. بل هم يستندون أحيانًا- كما تقدَّمت الشواهد- على أغاليط، ومغالطات، وتصحيفات، وأشباه ونظائر، لا أوَّل لها ولا آخر. ومَن كان هذا منهاجه وتلك بضاعته، فاضرب عنه صفحًا، فلن يأتيك ببحثٍ عِلْميٍّ يستأهل هذا النعت الرفيع. [وللحديث بقيَّة] * شاعر وناقد وعضو مجلس الشورى السعودي وأستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة الملك سعود في الرياض p.alfaify@gmail.com https://twitter.com/Prof_A_Alfaify http://www.facebook.com/p.alfaify http://khayma.com/faify (1) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 58. (2) الأزرقي، محمَّد بن عبدالله، (2003)، تاريخ مكَّة وما جاء فيها من الآثار، دراسة وتحقيق: عبدالملك بن عبدالله بن دهيش (مكّة: مكتبة الأسدي)، 2: 687. (3) مُنَى، 59. (4) انظر: الزبيدي، تاج العروس، (فلت). (5) مُنَى، م.ن. (6) انظر: الأزهري، تهذيب اللغة، (فلت). (7) مُنَى، 140.