بدءاً من عام 1993، ظلَّ أندريه جوكوف يذهب إلى أرشيف موسكو 3 أيام على الأقل أسبوعياً طيلة عقدين. يقضي هناك 4 ساعات في تقليب صفحات الآلاف من الأوامر الصادرة عن المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية NKVD، وهي الشرطة السرية التابعة لجوزيف ستالين؛ باحثاً عن أسماء ضباط المنظمة ورتبهم. والنتيجة هي أول مسح شامل لرجال المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية المسؤولين عن تنفيذ "الإرهاب الأعظم" في عهد ستالين في عامي 1937 و1938، حيث اعتُقِل فيهما نحو 1.5 مليون شخص وقُتِل 700.000 شخص. وفيما لم تكُن هذه أول دراسة لرصد القيادات الكبرى للمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية، إلَّا أنَّها المرة الأولى التي تتحدَّد فيها هوية الجميع، من المحقِّقين إلى منفِّذي الإعدامات. وتضم هذه القائمة أكثر من 40 ألف اسم. قال جوكوف، وهو شخص غريب ظريف يقيم الآن بالريف خارج موسكو، إنَّه رغم عدم كونه من محبِّي ستالين، فإنَّه لم يكُن هناك دافع سياسي حقيقي وراء عمله. جوكوف عمره الآن 64 عاماً ولطالما استمتع بجمع الأغراض، فقد كان جامع طوابع نهم في الحقبة السوفييتية. يقول: "لطالما كنتُ مهتماً بالأشياء السرية أو التي يصعب العثور عليها. بدأت هذا الأمر بمحض غريزة الجامع". ولكنَّ المؤرَّخين سرعان ما أدركوا أهمية عمل جوكوف، فأصدرت منظمة Memorial، التي تعمل على توثيق جرائم حقبة ستالين، قرصاً مدمجاً في هذا الصيف يحتوي على قاعدة بيانات جوكوف بالأسماء. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، نشرت قاعدة البيانات على الإنترنت. فعلها منفرداً! يان راتشينسكي من منظمة Memorial، يقول: "عادةً ما يقوم بهذا النوع من الأعمال مجموعةٌ من الباحثين، أو حتى معهد بأكمله، ولكنَّه فعل كل هذا وحده!". لا يُسمح بالتقاط صور الوثائق الأرشيفية، لذا نسخ جوكوف الأسماء والتفاصيل من الأوراق إلى دفاتر كبيرة، ثم أعاد نسخها في سلسلةٍ من البطاقات التي يحتفظ بها في منزله، مضيفاً معلومات جديدة إلى البطاقات عندما يجد تفاصيل جديدة عن ضباط المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية الذين سجَّل بياناتهم بالفعل. استغرقه هذا الأمر سنوات من العمل المتقن. ولأنَّ المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية كانت مسؤولة عن مجموعة كاملة من الوظائف إلى جانب الاعتقالات والإعدامات، فقد حدَّد جوكوف نطاق بحثه في أولئك المتورطين في أمن الدولة. قال راتشينسكي: "ليس كل من على هذه القائمة جزَّاراً: فهناك قلة قُتِلت أو لم تنفِّذ الأوامر. ولكنَّ الأغلبية العظمى كانت ذات صلة بالإرهاب بطريقةٍ أو بأخرى". نيكيتا بيتروف، وهي مؤرِّخة أخرى من مؤرِّخي Memorial، أضافت بدورها: "كان من بين هؤلاء الرجال أفراد متحمِّسون ومحترفون. كان العمل في المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية أمراً مرموقاً. وفي بداية ثلاثينات القرن الماضي، حينما وُجِد الفقر والمجاعة، كان العاملون فيها يحصلون على زيٍّ رسمي أنيق وغذاء جيد. لم يكُن الناس يعرفون أنَّهم خلال 5 سنوات سيحكمون على آلاف الناس بالموت". بين الجناة والضحايا كانت منظمة Memorial من قبلُ تركِّز أكثر على توثيق ضحايا قمع الحقبة السوفييتية عوضاً عن مرتكبيه، حيث تحتوي قاعدة بياناتهم للضحايا على نحو 2.700.000 اسم بالفعل، بالإضافة إلى 600.000 اسم آخرين سيُضافون العام الجاري 2017. وحول هذا، يوضح راتشينسكي أن هذا العدد هو نحو رُبع الـ12 مليون اسم تقريباً الذين ينبغي أن يُدرَجوا على القائمة لإكمالها، وهُم أولئك الذين تعرَّضوا للترحيل الداخلي أو صدرت ضدهم أحكام لأسباب سياسية. لم تنشر الهيئات الأمنية المحلية في بعض الأماكن قوائم بالضحايا قط، وفي العديد من الأماكن، ظلَّ الأرشيف مغلقاً. كما جرى إطلاق مشروع آخر، باسم "العنوان الأخير" عام 2013؛ بهدف إحياء ذكرى ضحايا الإرهاب الأمني، حيث يمكن للأقارب والأطراف المعنية التقدم بطلب للحصول على لافتة تُعلق على المنازل التي عاش فيها الضحايا. ويقول سيرغي باركومنكو، الصحفي والناشط الذي أعلن هذا المشروع، إنه جرى تقديم 1500 طلب وتم تركيب 300 لافتة بالفعل. وبينما كانت هناك بعض المحاولات الحذرة التي تهدف إلى توجيه بعض التقدير لضحايا حقبة القمع السوفييتي، فقد حظي الجناة باهتمام أقل حتى الآن. من بين الـ40 ألف شخصٍ الذين وُضعت أسماؤهم على قائمة جوكوف، كان هناك ما يقرب من 10% جرى إعدامهم أو سجنهم، على الرغم من أن بعض هؤلاء الذين زُج بهم في معتقل سيبيريا (جولاج) قد مُنحوا العفو قبل انضمام اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية USSR إلى الحرب العالمية الثانية وتابعوا الفوز بالأوسمة. ويروي جوكوف عن حديثه في أحد المنتديات التاريخية على الإنترنت مع شخص سرد بفخر كيف فاز جده بالأوسمة الرفيعة في أثناء الحرب. قائلاً: "اتضح أن الجد قد أدار فرق إطلاق النار في أثناء فترة الإرهاب. سُجن الجد في معتقل جولاج، قبل أن يُطلق سراحه لاحقاً، لتنفيذ أحكام الإعدام في أثناء الحرب مرة أخرى". جريمة بلا جانٍ؟! إن مثل هذه الروايات تكشف تعقيدات حقبة ستالين، وهو الشيء الذي تم تجميله في أثناء رئاسة فلاديمير بوتين لروسيا، حيث أصبح الانتصار في الحرب العالمية الثانية نقطة للحشد القومي. وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات للتحدث عن الصفحات المظلمة في فترة الثلاثينات من القرن العشرين، وافتتاح متحف لمعتقل جولاج في موسكو العام الماضي، تميل الرواية الرسمية إلى أن تُنحي جانباً حملات التطهير والقتل. وصرح بيتروف إنه لم يكن هناك كتاب واحد في المدارس الروسية يشير إلى "الجرائم" التي ارتُكبت في أثناء فترة ستالين؛ بل توصف بـ"أخطاء". ولذا، ففي ظل وجود خطط تهدف إلى تشييد نصب تذكاري لضحايا القمع السياسي بموسكو في المستقبل القريب، فإنهم يُعاملون كما لو كانوا ضحايا لتسونامي أو لزلزال- قصة عن ضحايا دون أي جريمة أو مجرم. وصرح راتشينسكي: "لا تكمن المشكلة في تأييد بوتين لستالين: فهو لا يؤيده. فقد أدان الجرائم في إحدى المناسبات. تكمن المشكلة في عجز بوتين عن الاعتراف بأن الدولة يمكنها أن تكون دولة مجرمة". وعلى الرغم من احتمالية بقاء عدد قليل من الأشخاص ضمن قائمة جوكوف على قيد الحياة واقترابهم من سن المائة، فإن الهدف لا يتمثل في فتح قضايا جنائية أو توجيه أصابع الاتهام إلى الأفراد. أردف بيتروف: "لسنا بحاجة إلى تسميتهم جميعاً المجرمين، ولكننا بحاجة إلى التعرف على الطبيعة الإجرامية لهذه المنظمة، وكذلك الطبيعة الإجرامية للدولة في ذلك الوقت". لم ينبهر الجميع بعمل جوكوف. ففي أواخر نوفمبر 2016، ناشد بعض من أحفاد هؤلاء المذكورين في قاعدة البيانات السلطات الروسية عدم نشر هذه القوائم على الإنترنت. وطلب نائب قومي في البرلمان من المدّعين التأكد مما إذا كان إعلان الأسماء يخالف قانوناً ضد إثارة العداوة الاجتماعية. - هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط .