أصبح عالمنا واحدا في ظل العولمة الكونية التي وصلت كل أطراف الأرض بعضها بالبعض الآخر، عن طريق الإنترنت والفضائيات ووسائل المعلوماتية الحديثة. نعم نحن أصبحنا نعيش في عالم واحد شئنا أم أبينا وقد آن الأوان لكي نتعرف على بعضنا البعض بجد. آن الأوان للصيني الكونفشيوسي او للبوذي الياباني أن يعرف من هو المسلم والعكس صحيح أيضا. ناهيك عن الهندوسي والمسيحي واليهودي، إلخ.. فالصين لم تعد بعيدة في آخر العالم ولا كذلك السند والهند. فالجميع أصبحوا يعيشون في بوتقة واحدة. وقد ترسل الرسائل الإلكترونية يوميا إلى زوايا العالم الأربع إذا كنت تشتغل في الكتابة والطباعة والنشر والأعمال وبقية الفعاليات بطرفة عين أو بنقرة صغيرة تصل رسائلك إلى العالم العربي أو الأفريقي أو الأميركي والأسترالي وشتى أطراف الأرض. لم تعد رسائلنا تنتظر أياما أو أسابيع لكي تصل إلى الجهة المقصودة. يا لها من تسهيلات عجيبة ما كنا نحلم بها حتى في منامنا.. هنا تكمن معجزة الثورة المعلوماتية التي غيرت وجه الأرض والعلاقات بين البشر. ولكن لحسن الحظ فان هذا العالم الواحد من حيث التواصلية المعلوماتية واستخدام نفس الأدوات التكنولوجية لن يكون واحدا من الناحية الثقافية. ولا يستحسن ذلك أصلا. لماذا؟ لأن ذلك يعني سيادة النمطية المملة التي تقضي على ثراء العالم وتنوعه وجماله. انه يعني تحول العالم إلى نمط واحد وفكر واحد ولون واحد. والبعض يخشى أن يحصل ذلك وان تعمم العولمة الأميركية نفسها على كل أنحاء العالم. الفرنسيون مثلا يحاولون الدفاع عن لغتهم وثقافتهم وصناعتهم السينمائية أمام زحف اللغة الانجليزية والسينما الأميركية. وهذا من حقهم ومن حق العرب والصينيين والروس والهنود وجميع الشعوب أن يفعلوا الشيء ذاته. ولذا نقول: لا تخافوا اطمئنوا: سوف تظل هناك لغات شتى في العالم وثقافات متعددة حتى في عصر العولمة الكونية والثورة المعلوماتية. ولن تستطيع الانجليزية السيطرة على العالم كله مهما زاد انتشارها واتسع نفوذها واستخدامها. ستظل هناك لغات أخرى كالعربية والفرنسية والألمانية والصينية والروسية والإسبانية.. الخ. العالم سيظل تعدديا لغويا وثقافيا حتى في ظل الهيمنة الأميركية أو الانغلوساكسونية. لا مكان للهيمنة ينبغي العلم أنه في العصر الذهبي المجيد كانت اللغة المهيمنة عالميا هي العربية. كانت لغة العلم والفلسفة والدين والحضارة من حدود الهند والسند الى حدود إسبانيا. ثم انهارت حضارتنا الكلاسيكية ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة. وعندئذ أصبحت الإسبانية هي لغة العالم في القرن السادس عشر. وفي القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير، أصبحت الفرنسية هي اللغة المهيمنة على كل اوروبا بما فيها روسيا. واذا كنت تكتب بلغة أخرى غيرها فان مؤلفاتك لم تكن تحظى بالذيوع والانتشار. حتى ملك بروسيا أو ألمانيا كان يفتخر بأنه يعرفها وكان يتحدث بها في بلاطه ويناقش العلماء والفلاسفة بلغة موليير أو لغة صديقه فولتير الذي كان يحضر مجالسه.. وأود بهذه المناسبة ان أنتهز الفرصة للدفاع عن لغتنا العربية. فلكي تستطيع ان تسترد أمجادها السابقة، لكي تستطيع ان تقاوم رياح العولمة الزاحفة عليها من كل الجهات فإنها بحاجة إلى شيئين اثنين: أولا تسهيل نحوها وصرفها وتقريبها من لغة الحياة اليومية دون أن تسقط في العامية أو اللهجات المحلية غير المفهومة من قبل جميع العرب. نحن بحاجة الى لغة وسطى لا عامية ولافصحى.حذار من الفصحى المتقعرة! هنا يكمن مقتل العربية. إنها أخطر عليها من اللهجات والعاميات. حذار من الجمود او التعلق بالماضي اكثر مما يجب: ومن الحب ما قتل! الشيء الثاني الذي ينبغي أن نزود العربية به لكي تستطيع مقاومة زحف العولمة وهجمة اللغات الأجنبية عليها وبخاصة الفرنسية والانجليزية هو نقل كل المعرفة الحديثة إلى لغة الضاد وتغذيتها بآلاف وآلاف المصطلحات الجديدة وكذلك عشرات الآلاف من التراكيب اللغوية المبتكرة.وهذا ما حاولت أن أفعله من خلال عملي كمترجم محترف على مدار ثلاثين سنة متواصلة. كل النظريات العلمية والفلسفية ينبغي أن تُهضم بالعربية. عندئذ يمكنها ان تقاوم هجمة الانجليزية والفرنسية على مشرق العالم العربي ومغربه. نعم نحن نعيش في عالم واحد، أو حتى في قرية كونية واحدة كما قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان (1911-1980). ولكن هذا العالم ليس نسيجا واحدا وإنما هو متعدد الثقافات واللغات والمناظر الطبيعية الخلابة والعادات والتقاليد، الخ.. وينبغي ان يظل كذلك لكيلا نمل منه ونضجر. ما معنى ان تختفي عادات الكرم والضيافة من العالم العربي بحجة الحداثة والتحديث والعولمة التكنولوجية المفرغة من كل عاطفة إنسانية؟ هل سيغفر لنا ذلك جدنا حاتم الطائي الذي ولد في الجزيرة العربية وفي «حائل» بالذات؟ سنظل عرباً وهذا من حقنا مثلما أن من حق الآخرين أن يظلوا اميركان او فرنسيين، هنودا أو صينيين. ما معنى ان نسافر من بلد الى بلد ومن قارة الى قارة دون أن نشعر (ما ان تحط بنا الطائرة) بأي اختلاف في المناخ، أو في المشهد العام؟ ودون أن نشعر بأي فرق في المنظر والجو وسحنة الوجه؟ ما معنى عالم امتثالي يشبه بعضه بعضا من أوله الى آخره؟ هذا استنساخ تكراري، هذا ليس عالما حيا. نعم للعولمة والتواصل بين جميع البلدان والقارات والحضارات والشعوب. ولكن لا، والف لا، للنمطية الامتثالية المتكررة وكأنها نسخة طبق الاصل عن بعضها البعض. التنوع هو اساس الجمال والارتياح والدهشة والمفاجأة والفرح بأشياء جديدة تمتعنا كلما سافرنا وتنقلنا. الخصوصية ليست مضادة للكونية كما يتوهم بعض السطحيين. بل لا توجد كونية الا وهي مغروسة في تاريخ ما، في خصوصية ما، في تربة ما. ... المزيد