في زوبعة المداولات حول قضية ساعات العمل ومناقشات مجلس الشورى الموقر، لم يتم استقراء ومعرفة وجهة نظر الموظف، وهو الطرف المستهدف في هذه القضية، في الوقت الذي غلبت أصوات رجال الأعمال كونهم الطرف الأقوى. من الصعب على من هم طرف أقوى من أطراف القضية أن يحكموا عليها بحيادية إذ إنهم منتفعون من استغلال الموظف وتشغيله وتقليل أعداد الموظفين مع زيادة ساعات دوامهم حيث ينطبق عليهم قول الشاعر (وأنت الخصم والحكم). يدّعي رجال الأعمال أن تخفيض ساعات العمل حسب المرسوم الملكي سيسبب تراجعًا للاقتصاد الوطني، بينما جشع وقلة أمانة التُجَّار والمقاولين المتلونين تحت الطاولة وفوق الطاولة هو العامل الحقيقي لوهن وترهل الاقتصاد الوطني. هؤلاء الذين هم أنفسهم من يضغطون بشتى السبل على أعضائهم في الشورى لعدم تمرير قرار الـ 40 ساعة هم أصحاب الكلمة المسموعة، بينما يغفل مجلس الشورى استشارة الخبراء المستقلين في قضية يتفرع عنها عدد من المؤثرات الاجتماعية والنفسية والتربوية بالإضافة للاقتصاد. أولئك الذين يتربعون على الأرصدة، ويلعبون بالأرقام الفلكية يتشدقون بتقاعس الموظف في السعودية، وقلة إنتاجيته وتلاعبه هم أنفسهم لم يتحملوا دوام 48 ساعة كأُجراء. وفي الوقت الذي يسوقون مبرراتهم بأن اختزال ثماني ساعات من الدوام الأسبوعي هو خطر على الاقتصاد الوطني متناسين أن الغالبية العظمى من الدول الأجنبية والصناعية تكتفي بأقل من 40 ساعة. ولدينا كثير من النماذج من الشركات الأجنبية المقيمة في السعودية التي تستغل قانون العمل السعودي الذي يسمح بتشغيل الموظف 48 ساعة أسبوعياً، بينما تكتفي بـ 36 ساعة في فروعها في الدول الأخرى. فهل تتطلب الإنتاجية في السعودية مواصفات تختلف عن غيرها في الدول الصناعية الرائدة؟!. وهل تحتاج الإنتاجية في عصر الكمبيوتر والاتصالات لإهدار وقت الموظف في دوام غدا تخفيضه من بديهيات المجتمعات المتقدمة والمنتجة؟. نسمع من هؤلاء المنتفعين مثل هذا التهويل عن تخفيض دوام القطاع الخاص بينما يخرسون عندما نستدرك بحقيقة دوام الشركات الكبرى كأرامكو وسابك وسكيكو والبتروكيميا في الجبيل وينبع، حيث لا يزيد على 40 ساعة أسبوعياً. فإذا كانت الـ 45 ساعة التي يرغب بعض أعضاء مجلس الشورى إعادة التصويت عليها ستنقذ اقتصاد الوطن، فلماذا لم تلتزم بها شركاتنا الكبرى التي هي محور اقتصاد الوطن. وإذا كانت هذه الساعات الإضافية عاملاً مؤثراً في زيادة الإنتاج فلِمَ تراجعت عنها غالبية البلدان الصناعية الأجنبية. ليس منتظراً من أصحاب البشوت المتخمين بالرفاهية والذين يركبون الجاكوار والرولزرايس استيعاب معاناة الموظف الكادح المنفي بين جدران المكتب وتحت أدخنة المصانع وبين ضجيج المعدات وركام الخردة أن يستوعبوا حاجة الموظف لإدارة أسرته وتربية أبنائه ومتابعة نموهم المعرفي والنفسي والتربوي. وها نحن في ظل غياب أو تغييب الأبوين العاملين نعيش ظاهرة ربائب الأجانب من الخدم والحاضنات وننفتح على تحديات كبرى تواجه الأبناء دون أدنى التفات من المعنيين الحقيقيين بمسؤولية الآباء وضرورة وجودهم في حياة أبنائهم إلا عند انفلات الزمام وفوات الأوان. هذا الدوام الخانق لا يقدر حقيقة الإنسان وحقه أن يمارس حياته الطبيعية بمعزل عن الاقطاع الوظيفي الجشع. ولعل رجال الأعمال والصحفيين والأكاديميين الذين يشكلون نسيج مجلس الشورى لم يزاولوا مثل هذا الدوام القاتل لأنهم ببساطة قضوا عمرهم المهني بين الدراسة والوظائف الحكومية والدوام الحر. منذ شهرين وإلى اليوم طالعنا مجلس الشورى بمناقشة قرارين يناقض أحدهما الآخر بين توصية الـ 40 و 45. قفزت التوصية في مدة زمنية قصيرة ومستغربة حين طالب عدد من أعضاء الشورى بإعادة النظر في التوصية الأولى. فكيف تغيرت مصلحة الاقتصاد الوطني خلال شهرين من التوصية الأولى وكيف تم إنقاذه من الانهيار بخمس ساعات من عمر الموظف المسكين. فهل كاد مجلس الشورى أن يهوي باقتصاد البلد في التوصية الأولى؟. ولعل صفقات لا مرئية قد تمت بين القرارين للالتفاف على توصية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإجازة يومين أسبوعياً مع دوام 8 ساعات يومياً، مما يثير الشكوك والسخط على أولئك الملتفين. وفي الحقيقة إن تلك المبررات التي ساقها مجلس الشورى ومن بينها مصالح رجال الأعمال أخزى صورة يظهر بها عضو شورى يريد كسب ود رجال الأعمال وطلب رضاهم المؤثر على المدى الأقرب والأبعد. تضارب القرارات والتوصيات يُظهِر مجلس الشورى بصورة مهزوزة ومربكة أمام مجلس الوزراء من جهة وأمام أبناء الوطن من جهة أخرى. والمثير للسخرية أن يكتفي مجلس الشورى بعد توصية خادم الحرمين الشريفين وبعد كل هذا الصخب الإعلامي بتخفيض 3 ساعات وكأنه يتصدق على الموظف ويحاول على استحياء إرضاء الإرادة الملكية. ولعلنا نتذكر جيداً ذرائع هؤلاء المنتفعين بعدم دمج دوامي البنوك إلا أنها لم تكن إلا ذرائع كارتونية بلا حقيقة. لم يكن الموظفون يعولون إلا على التوصية الأبوية لخادم الحرمين الشريفين التي سبق أن ردت توصية مثيلة لمجلس الشورى لم تراع حقوق الموظف. العين الأبوية التي أصابت الهدف وأتقنت التصويب ودمجت دوامي البنوك تعي جيداً أهمية الفرد في الإنتاجية بكفالة حقوقه الشخصية والمهنية. فكن صاحب المبادرة يا مجلس الشورى!.