يبدو لي أن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم وحتى هذا التاريخ التي قرأت نظرية ابن خلدون حول العمر الزمني للحضارات، ووعتها وعملت على إطالة عمرها، فإذا كان للإنسان عمر افتراضي لا يتعداه، فإن الحضارات لها عمر افتراضي هي الأخرى، ولكن قد يطول لآلاف السنين. أمريكا هي الوحيدة في تقديري التي تعمل على هذا الجانب، وفق استراتيجيات قصيرة وطويلة الأمد، بهدف الحفاظ على كيانها أطول فترة ممكنة، وهو شغلها الشاغل منذ أول يوم ظهرت فيه للوجود. الأمريكان هم وحدهم الذين يمثل لهم (الأمن) هاجساً يوميا، وهم وحدهم الذين يعملون من أجله، وهم وحدهم الذين ينفقون عليه مليارات الدولارات، وهم وحدهم الذين يدرسون القوى المنافسة لهم، ويراقبون بزوغ الحضارات الجديدة، وتأثيرها عليهم. والأمن القومي الأمريكي يعني في نظرية ابن خلدون إطالة فترة عمر الشباب لأمريكا، وتجنب أي عمل يؤدي بها إلى الهرم، لأن الهرم يعني الانحدار للأسفل وتلاشي الحضارة، وفترة الشباب من عمر الحضارات تحتاج إلى ثلاثة أمور: أموال طائلة وأفكار إبداعية وقمع المنافسين بصورة مستمرة ودون توقف. وتتبع أمريكا في ذلك استراتيجية (إشغال المنطقة وإشعالها) بهدف كبح جماح أي حضارة وليدة، وأسهل طريقة إلى (إشغال إشعال المنطقة) تجيء عبر تهيئة الأجواء لاحتراب طائفي وحزبي وإثني وإقليمي باعتبار ذلك أهم معوقات التنمية والنمو، ما يعني كسب أكبر قدر من التفرقة وكسب أكبر قدر من الأموال على اعتبار أنه لا تجارة بدون حرب حسب نظرية أحد الغزاة الهولنديين القدماء. سياسة إشغال المنطقة وإشعالها تمر على العالم العربي بمثابة القدر الذي لا مفر منه، والبعض يراه أنها (مؤامرة) طويلة الأمد، وهذه نظرة (سياسية قاصرة)، حيث إن التوسع والأمن هما هاجسا كل الحضارات بدءاً من الآشوريين مرورا بالرومان والعباسيين والبريطانيين والبرتغاليين وانتهاء بالاتحاد السوفييتي، هي ليست مؤامرة بقدر ما هي سياسة إمبراطورية متجذرة تتحرك عبر سنة كونية تدخل في باب (التدافع) البشري. إذا فهم الخليجيون والعرب هذه السياسة، وباتت جزءاً من المناهج الأكاديمية، ساعتها يمكنهم أن يكونوا (لاعباً) سياسياً محترفاً يحقق الأمن الوطني والإقليمي والقومي لدولهم، وليس مجرد أداة لقوى خارجية تجعلها وقوداً للإشعال والإشغال، وعليهم أن يتجنبوا سياسة العروبيين الذين ما فتئوا يشغلون ويشعلون شعبهم حتى تبقى أنظمتهم السياسية في مأمن، وهذه أغبى سياسة عرفها التاريخ.