يُمكن النظر إلى العلاقات الراهنة بين أوروبا ودول الخليج العربي باعتبارها مكوناً رئيسياً في منظومة العلاقات العالمية لهذه الدول، كما تمثل إحدى السمات الأساسية للبيئة الجيوستراتيجية لهذه المنطقة. وتستمد هذه العلاقات روافدها من حقائق الجغرافيا والتاريخ والحاجات المشتركة، وكذلك التحديات الإقليمية التي تفرض نفسها على الجانبين. وبالطبع، قد يكون من الصحيح الحديث عن علاقات أوروبية - خليجية عامة، لكن الأكثر صحة هو أننا بصدد روابط غالباً ما تطوّرت في سياق ثنائي. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على علاقات دول الخليج بقوى دولية مختلفة، مثل الصين والهند. بل حتى العلاقات الأميركية - الخليجية لاتزال ذات مكون ثنائي بالدرجة الأولى. وهذا يعود إلى طبيعة التكوين السياسي للمنطقة، وماهية الفلسفة التي تشكل في ضوئها مجلس التعاون الخليجي، كما أن العراق مازال بعيداً عن غالبية الأطر المشتركة في الخليج. إن تطوّر التعاون الأوروبي مع دول المنطقة عامة يُمثل ظاهرة إيجابية يجب تعزيزها والتشجيع عليها. وعلى الخليجيين والأوروبيين أن يتجاوزوا علاقة البائع والمشتري، ويؤسسوا أشكالا جديدة من التعاون المثمر والبناء وعلى الرغم من هذه الحقيقة، يُمكننا القول بأن العلاقات الأوروبية بهذه المنطقة تُمثل حالة صحية ومتقدمة في تجارب التعاون المشترك على المستوى الدولي. على مستوى التأصيل، يُمكن القول بأن هناك أربعة مكونات رئيسية في العلاقات الأوروبية - الخليجية الراهنة، هي: الطاقة (واستتباعًا التبادل التجاري)، وصفقات السلاح، والاتفاقيات الأمنية والدفاعية المؤسسة لدور جيوسياسي، أو الدافعة باتجاهه، والتنسيق المشترك في مواجهة قوى الإرهاب العابر للأقطار، التي تتخذ من سورية والعراق مرتكزاً لها. وترتبط جميع هذه المكونات، على نحو مباشر، بموقع أوروبا الإقليمي. على الصعيد التجاري، يُمكن القول إن التجارة الأوروبية - الخليجية، لا تحتل سوى موقع هامشي في تجارة أوروبا العالمية، على الرغم من أهمية ما تشير إليه أرقامها المطلقة، وأهميتها الكبرى بالنسبة للحجم الإجمالي للتجارة الخليجية. وتتعرض صادرات أوروبا لدول الخليج على نحو متزايد لتآكل قدرتها التنافسية أمام السلع الآسيوية، وإذا جرى في يومٍ ما التخلي عن صفقات الطيران المدني لمصلحة منتجين آخرين، فإن التجارة الخليجية - الأوروبية، غير العسكرية، ستكون أشبه بصادرات خام من جانب واحد. وقد دخل الجانبان الأوروبي والخليجي، منذ سنوات طويلة، في مفاوضات مكوكية تستهدف إبرام اتفاقية تجارة حرة يتوقع لها أن تعزز الشراكة القائمة وتمنحها بعداً هيكلياَ جديداً، إلا أن هذه المفاوضات متوقفة الآن. لقد مثلت دول مجلس التعاون الخليجي خامس أكبر سوق تصدير لأوروبا. وبلغ حجم التجارة بين الجانبين 170 مليار يورو عام 2014، بزيادة قدرها 10 % على عام 2013. وعلى سبيل المقارنة، بلغت قيمة صادرات دول مجلس التعاون إلى الاتحاد الأوروبي 45 مليار يورو في العام 2006، في حين بلغت واردات هذه الدول من الاتحاد الأوروبي أكثر من 36.4 مليار يورو، وتحقَّق فائض تجاري قدره نحو 9 مليارات يورو لمصلحة الجانب الخليجي. وشكلت التجارة بين المنطقتين 18 % من تجارة منطقة مجلس التعاون الخليجي الدولية في ذلك العام. على الصعيد السياسي، نصت الاتفاقية الإطارية للتعاون بين مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي، الموقَّعة عام 1988، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1989، على تشكيل مجلس مشترك يضم وزراء خارجية الطرفين، ويعقد اجتماعات دورية سنوياً في إحدى عواصم الدول الأعضاء. وقد عقد المجلس المشترك أول اجتماع له في العاصمة العمانية مسقط في 17 آذار/ مارس 1990. وإضافة إلى ذلك، يعقد الجانبان اجتماعاً سـنوياً في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. على الصعيد الأمني، يُمكن القول إن الدور الأوروبي الراهن في معادلة الأمن الإقليمي الخليجي يبقى دوراً أولياً، ذلك أن الاتفاقيات الأمنية والدفاعية المؤسسة له -إن مباشرة أو عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) - تعد ذات التزامات منخفضة نسبياً، لا تتيح للأوروبيين متسعاً من الحركة، على نحو يمكن ترجمته إلى نفوذ إقليمي، أو يمكن لأوروبا من خلاله التحوّل إلى لاعب رئيسي في أمن الخليج. وكانت الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وبريطانيا، قد نجحت في إعادة تشكيل علاقاتها الأمنية بدول مجلس التعاون الخليجي بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، ودخلت مع عدد منها في اتفاقيات دفاعية، ذات مستويات وسقوف متفاوتة. وقد يكون الأمر الأكثر دلالة هو ذلك المرتبط بفرنسا، إذ إن التعاون البريطاني - الخليجي ظل مستمراً على الصعيد العسكري، بأشكال مختلفة، وبتفاهمات واتفاقيات متفاوتة المستوى. وفي هذا الإطار، يُمكن القول إن انسحاب بريطانيا من الخليج، في مطلع العقد السابع من القرن العشرين، لم يَعنِ بحال من الأحوال نهاية نفوذها فيه. وليس من الصحيح القول إن البريطانيين أخلوا مكانهم لمصلحة القوة الأميركية. والصحيح هو أن الأميركيين والبريطانيين قد باشروا في تقاسم النفوذ الإقليمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأعادوا إنتاج هذه القسمة على نحو ضمني بعد رحيل القوات البريطانية عن الخليج في نهاية عام 1971. على صعيد صفقات التسليح الأوروبية لدول المنطقة، هناك ثلاث دول أوروبية حاضرة، بنسب ملحوظة، في سوق الدفاع الخليجي، هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وهناك دولة أوروبية واحدة، هي فرنسا، تحتفظ بقاعدة عسكرية رسمية في الخليج. كما تتحرك بريطانيا الآن في الاتجاه ذاته. ومن جهة أخرى، هناك حضور أوروبي كبير في الجهود الدولية الخاصة بمواجهة القرصنة البحرية في بحر العرب. وكان وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، قد أقروا، في اجتماعٍ لهم في بروكسل، في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2008، نشر قوة جوية وبحرية، لحماية طرق الملاحة قبالة سواحل الصومال، في خليج عدن وبحر العرب. وقد بدأت هذه القوة مهامها رسمياً، في الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته. وفي الحسابات الأكثر مغزى، يُمكن القول إن الزمن ظل ذا دلالة بالغة في توجيه العلاقات الأوروبية - الخليجية، فخلال عقد حدث قدر كبير من التحوّلات في أوروبا والشرق الأوسط. وهي تحوّلات فرضت نفسها على أية مقاربة للعلاقات المشتركة. من ناحيته، خطا الاتحاد الأوروبي خطوة تاريخية مطلع أيار/ مايو 2004، وذلك بضمه عشر دول جديدة إلى عضويته. وزاد بذلك عدد سكان أوروبا الموحدة بمقدار 75 مليون نسمة ليصل حينها إلى 450 مليوناً، وازدادت مساحتها الجغرافية بنسبة 25%، بحدود مشتركة مع روسيا وأوكرانيا. وهنا، انتهى رسميا تقسيم القارة الأوروبية بين غرب وشرق. وبات على العالم إعادة إنتاج مقاربته للعلاقة بالأوروبيين. إلى ذلك، يُمكن القول إن أوروبا قد تغدو، في غضون عقدين من الزمن، مجاورة جغرافياً للخليج العربي، وذلك في اللحظة التي تدخل فيها تركيا الاتحاد الأوروبي، وحيث تجاور الدولة التركية العراق بحدود طولها 352 كيلومتراً. وهذه عملياً حدودها الخليجية. وإذا نجحت جهود الكويت في شق طريق استراتيجي يمتد من البصرة إلى موانئ أوروبا، فسوف يكتمل المشهد. وسنكون حينها أمام تحوّل جيوسياسي بعيد الدلالات، سيصب في مصلحة جميع شعوب المنطقة، ويعزز عالياً من فرص التعاون بينها. والجغرافيا هنا لا تشير إلى الأرض والشواطئ فقط، بل هي بالضرورة أكثر من ذلك. إنها ذات صلة بالاجتماع البشري وتفاعل المكونات الاجتماعية، والانسياب المتبادل للفكر والعلوم والثقافة، وأنثروبولوجيا الشعوب. ولاريب، فإن دول المنطقة معنية بدعم ومباركة المشروع الكويتي، فهو مشروعها مجتمعة، وهو سيفتح أمامها أنهاراً من الفرص. بقي أن نشير ختاماً إلى حقيقة أن مستقبل الدور الأوروبي في الخليج لا يُمكن مقاربته دون ملاحظة ماهية واتجاه خيارات أوروبا في الشرق الأوسط عامة. في هذا الإطار، يُمكن الإشارة إلى أن الأزمة السورية، وتداعيات عميقة الأثر، قد دفعت باتجاه إعادة توجيه الاهتمامات الأوروبية في الشرق الأوسط. وفي إعادة التوجيه هذه، بدا مواجهة الإرهاب وقد هيمن على مساحة بارزة من هذه الاهتمامات. لقد زاد الأوروبيون من حضورهم العسكري في الإقليم، وباتوا فاعلاً أساسياً في الحملة العسكرية التي تستهدف الجماعات الإرهابية الناشطة في سورية والعراق، وخاصة تنظيم داعش. وقد مثل هذا التحوّل استجابة منطقية لحقائق الأشياء. وكان خطوة في الاتجاه الصحيح على نحو مجمل. ويدرك الأوروبيون الآن بأن مستقبلهم في الشرق الأوسط لا يمكن مقاربته دون جهد دؤوب، متعدد الأطراف، لوقف جموح قوى الإرهاب العالمي، التي تعشعش في هذا الشرق، وتتخذ من سورية والعراق منطلقاً رئيسياً لها. إن هذا المتغيّر، قد أعاد بالضرورة تعريف مكانة أوروبا ودورها في الأمن الإقليمي، بما في ذلك أمن الخليج. إن إعادة التعريف هذه لن تمثل تطوراً سلبياً، إذا ارتكزت إلى منظور سياسي متكامل لأزمات المنطقة، وتحديداً حيال سورية والعراق. وبالنسبة لسورية على وجه الخصوص، لا بد لأوروبا من التمسك برؤية واقعية، بعيدة عن الجموح الأيديولوجي، والصورة النمطية المتكلسة. وعليها أن تعترف أمام مواطنيها بأن أمنها لا يتحقق بمنأى عن أمن حلب ودمشق. وهناك طريق واضح لا لبس فيه لتحقيق هذا الأمن، وهو تشجيع الحوار السوري الداخلي، ومباركة المصالحات المحلية التي تتسع يوماً بعد آخر، والتأكيد على أن المقاربة السياسية للأزمة السورية هي الخيار العقلاني والمنطقي، الذي ينسجم ومخزون سورية الحضاري، كما فلسفة أوروبا ورسالتها العالمية. وخلاصة، إن تطوّر التعاون الأوروبي مع دول المنطقة عامة يُمثل ظاهرة إيجابية يجب تعزيزها والتشجيع عليها. وعلى الخليجيين والأوروبيين أن يتجاوزوا علاقة البائع والمشتري، ويؤسسوا أشكالا جديدة من التعاون المثمر والبناء.