قبل أعوام قضيت مع عائلتي جزءاً من الإجازة في لندن. استأجرت شقة صغيرة. وحدث أن تعرّضت إحدى مواسير الماء لعطل. تواصلت مع المؤجر فأخبرني بأنه سيكلف سباكاً. جاء السباك واتضح أن أعمال الإصلاح تحتاج بضعة أيام ولساعات كل يوم. كان شاباً إنجليزياً. يرتدي بدلة عمل متسخة بطبيعة المهنة. وكان يقضي في الظهيرة نصف ساعة ليتناول وجبة الغداء، لكنه ما كان ليتناول الوجبة دون نديم، وكان النديم كتاباً تتجاوز صفحاته الثلاثمئة صفحة! إنها العلاقة الوطيدة مع الكتاب التي بنيت بالتربية! في حوارٍ مع الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس (24 أغسطس 1899 - 14 يونيو 1986) كان شغوفاً بعالم القراءة، يفتقد صوت أمه التي كانت تقرأ له النصوص وهو في ظلمة عينيه اللتين فقدهما. يتخيل الصور ويحلّق معها. ما جعله مؤسساً للقراءة التخيلية. إذا أردت أن تحبّ القراءة وتوطد العلاقة مع الكتاب فاقرأ لبورخيس الذي قال: حتى في الجنّة أريد مكتبة. وثّق علاقة بورخيس بالمكتبة والقراءة المؤرخ الشهير الأرجنتيني ألبرتو مانغويل (ولد عام 1948 في مدينة بوينس آيرس) والمتخصص بالقراءة، في كتابٍ ترجم للعربية أخيراً بعنوان: مع بورخيس. مانغويل التلميذ تعرّف إلى بورخيس الأستاذ وهو في السادسة عشرة من عمره. بجوار مكتبةٍ في بيونس آيرس. يفرح بورخيس بزيارات تلميذه. يستفيد من التلميذ إذ يقرأ له الكتب. ينصت إليه بنظارته السوداء. يأخذه الخيال إلى عوالم وغاباتٍ وسماواتٍ من التأمل والنظر. علاقته بالقراءة انعكست على نصّه، فحين يكتب بورخيس فإنه ينقش الحروف نقشاً، ويكفي أن يدمن القارئ على نصوصه ليعرف نوع القراءة التي انتهجها. كان فوضوياً في اختياراته للكتب موضع الاطلاع، بين الدين، والنقد، والأساطير لدى الأمم. أغرم بكتاب ألف ليلة وليلة فهي أساسية بخياله. ولعل ذروة حضور الأساطير العربية في نصه تجلى بمجموعته الماتعة: المرايا والمتاهات. يقول مانغويل من النادر أن ينهي بورخيس كتاباً قرأه. عدم منهجية بورخيس في القراءة لم تكن عيباً. المهم الارتباط بالكتاب، واللوذ به، والأخذ من ينابيع الكتب والموسوعات والمراجع والقصص والروايات والقصائد، الظفر بالمعلومة، مع مرور الوقت تتشكل المنهجية والطريقة ويتكون الأسلوب الملائم ضمن الظروف والتخصص والتوجه. بعض الكتب تقرأ في الطائرة أو في النزهات، والأخرى تحتاج إلى صفاء ذهن وتركيز عالٍ. عندما تكون القراءة مهمة يمارسها الجميع في كل المهن فهذا سينتج مجتمعاً مختلفاً في وعيه وثقافته وتعليمه، وهذا سينعكس بالطبيعة على تنميته واقتصاده. تحويل القراءة إلى موضوع يومي اعتيادي يمكّن المجتمعات من النهوض، ولا يمكن تصوّر مجتمع ناجح من دون أن تكون القراءة جزءاً من يومياته، والقراءة هواية ليست صعبة ولا مستحيلة. قراءة ثلاثين صفحة أو نحوها في اليوم تكتشف قيمتها مع مرور الوقت، ثم تزيد عدد الصفحات المختارة كل شهر. القصّة التي فتحت بها المقالة بالغة الدلالة على تحوّل القراءة إلى جزء من يوميات الإنسان لها حصّتها الزمنية ووقتها المستقطع. للقراءة جانبها النفسي المثمر، فالشعور بالاسترخاء، والانتظام في السلوك يأتي من القراءة. كذلك الشعور بالمتعة حين تكتشف فكرة جديدة، أو تقرأ قصّة تاريخية، أو تبهرك قصيدة رائعة، وهكذا تكون في حالة اكتشافٍ دائم. مثقفون كثر قالوا إن ثقافتنا شفهية، غير أنني أحسبها الآن باتت بصريّة بامتياز. لم يعد المكتوب الورقي مؤثراً لدى مجتمعاتنا، حين تجعل للقراءة وقتها رغم سحر الشاشة، وألق الأجهزة الذكية، فإنك تشعر بالتوازن في يومك، وهذه حالة مجرّبة، فنصف ساعةٍ يومياً تكون فيها مع كتابك الأثير ستكتشف مع مرور السنوات أنك أنصفت عقلك فمنحته الغذاء المعرفي الواجب، ومن لم يقرأ يوشك عقله أن يصدأ.