منذ اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر وحتى اليوم، تأخذ المعرفة الإنسانية مساراً تصاعدياً، وإذا كانت الطباعة هي حجر الأساس في عملية انتشار المعرفة، وتطور المجتمعات الصناعية، فإن زمن ثورة الاتصالات وضع العالم أمام نقلة هائلة في مفهوم الإنتاج نفسه، وفي تقسيم المجتمعات بين مجتمعات منتجة للمعرفة ومجتمعات مستهلكة. وكما تحكّمت المجتمعات الصناعية في تطور مسار التاريخ المعاصر وتكوين القوى العظمى فإن عصر مجتمعات المعرفة سيحدد أيضاً موقع الدول في تقسيم العمل الدولي، وسينتج تحولاً في المفاهيم يطال دور الثروة ومعناها، وموقع الثروة المعرفية في هذا العصر الجديد، بوصفها أهم الثروات. إننا بلا شك نحيا في عصر جديد، تختلف فيه التحديات، وتزداد صعوبة عما قبل، وليس من السهل أن تتكيّف المجتمعات والمؤسسات والدول مع المتطلبات الجديدة لعصرنا، خصوصاً مع تراجع دور الثروات التقليدية، والتي كانت مصدر الدخل الأساسي للكثير من الدول، كما تراجع دور الصناعة التقليدية، وهو ما رافقه بروز مشكلات بين الدول نفسها، وعودة الصراعات العنيفة إلى الواجهة. وإذا كانت حروب النصف الأول من القرن الماضي قد حددت شكل النظام الدولي، فإن ذلك النظام الدولي نفسه يعاني حالياً اضطراباً، وهو ما يمكن أن نعزو جزءاً كبيراً منه إلى تباين قدرة الدول الكبرى على التكيّف مع التطور الهائل في المعرفة وتحويلها إلى ثروة ونظام في الوقت نفسه، فهناك بعض الدول التي أسهمت بقدر أكبر من غيرها من التطور المعرفي، وتجد أنه من الطبيعي أن تحدد هي طبيعة النظام الدولي، وهناك دول تنتمي إلى النظام القديم، وهي تمانع بقوة تخليها عن مكانتها المهمة التي حازتها في النظام الاقتصادي القديم القائم على القوة المجردة والمكانة الصناعية، لكنها لم تتمكن من تطوير منظومتها المعرفية. ونحن في دولة الإمارات العربية المتحدة، نجد تحولاً مهماً على مستوى التخطيط الاستراتيجي، فقد بلورت القيادة رؤية جديدة تقوم على الانتقال إلى اقتصاد ومجتمع المعرفة، وذلك إدراكاً منها لطبيعة التحديات الجديدة للقرن الذي نعيش فيه، وما تفرضه تلك التحديات من ضرورات وخطوات، ولقد أوضحت القيادة أن الاعتماد المستقبلي في الاقتصاد لن يكون على النفط، وإنما على تطوير البنى المؤسساتية والاقتصادية في إطار اقتصاد المعرفة، وهو ما يؤكد ترابط السياسيات من جهة، وإدراك روح العصر وتحدياته من جهة أخرى. إن الانتقال في الإمارات نحو مجتمع المعرفة له أسس راسخة في الواقع، فنحن إذا ما نظرنا بعمق إلى البنية التحتية المتميزة في وطننا سنجد أنها من أهم البنى التحتية في منطقتنا، وهو ما يؤهل فعلياً عملية التحول الاستراتيجي نحو المجتمع المعرفي. إن البنية التعليمية وكل ما يرتبط بها هي جزء مهم وأساسي في المجتمع المعرفي، وقد نالت البنية التعليمية في الإمارات منذ تأسيس الدولة الاتحادية اهتماماً خاصاً في التخطيط الاستراتيجي، وقد وصلت اليوم إلى مستوى مرموق من حيث الكم والنوع، خصوصاً على مستوى الجامعات، والتي تخرّج سنوياً آلاف الطلبة في مختلف الفروع. كما أن نظام الخدمات الإلكترونية المتطور في الإمارات (الحكومة الذكية) هو من أهم النظم في المنطقة والعالم، وهو ما ارتبط أيضاً بمستوى رفيع من الحوكمة، والتي تعد مؤشراً مهماً في قدرة الدول على بناء استراتيجيات فعالة، وتطوير المؤسسات القائمة أو استحداث مؤسسات جديدة لتناسب الاستراتيجيات الجديدة، ودفع الشباب للانخراط في تلك المؤسسات، وكل ذلك من أجل مواكبة التحولات العالمية، وزيادة القدرة التنافسية. وفي الفضاء الاستراتيجي للتحول نحو المجتمع المعرفي سيكون من الطبيعي أن تشهد الدولة نمواً في المؤسسات المعرفية المتخصصة، وفي مقدمتها المؤسسات البحثية التي تعتبر عصب أي مجتمع معرفي، وهي نواة دورة الإنتاج فيه، وهو ما سيسهل استثمار الموارد البشرية بشكل يتناسب مع المهام الجديدة للموارد البشرية في مجتمع يقوم على اقتصاد المعرفة، خصوصاً أن الدولة استثمرت خلال العقود الماضية بشكل كبير وممنهج في تطوير الموارد البشرية الوطنية. ويمكن القول إن الخطوات التي تتخذها دولتنا نحو المجتمع المعرفي هي خطوات مدروسة، تقف خلفها إرادة صلبة في الاستجابة لتحديات العصر، ولديها قراءة دقيقة لجملة التحولات التي تمر بها منطقتنا والعالم، حيث لم يعد ممكناً تحقيق قدر من التنافسية من دون التعامل الجدي مع استحقاقات تلك التحولات، وتأمين الخطط والبرامج لمواكبتها، في عصر يتجه أكثر فأكثر نحو الاعتماد على المعرفة كأساس في الإنتاج، وتزداد فيه الهوة بين منتجي المعرفة ومستهلكيها، ويصبح اللحاق بركب مجتمعات المعرفة هو تحدي القرن الحالي.