غيب الموت أمس الدبلوماسي المصري المخضرم الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة خلال التسعينات، وذلك بعد تعرضه لوعكة صحية توفي على أثرها بأحد مستشفيات القاهرة عن عمر يناهز 94 عاما. ونعى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الراحل قائلا في بيان أمس إن «مصر والعالم أجمع فقدوا قيمة وقامة سياسية وقانونية رفيعة، حيث أثرى الفقيد عبر مسيرته الطويلة السياسة الدولية فكرًا وعملاً، بوصفه دبلوماسيًا قديرًا وخبيرًا في القانون الدولي وكاتبًا نُشرت مؤلفاته على نطاق واسع، وهو ما أهله لتبوُّء أرفع المناصب على المستويين الوطني والدولي.. ولن تنسى القارة الأفريقية للفقيد دوره الكبير في الاهتمام بقضاياها والمساهمة في تنمية دولها». وكان غالي قد تعرض لوعكة صحية مؤخرا نتيجة إصابته بكسر مضاعف في الساق اليسرى، كما عانى من اضطرابات بالقلب وخلل في وظائف الكليتين، ورفض مقترحا من المقربين إليه للسفر إلى العاصمة الفرنسية باريس لاستكمال العلاج بها، وأبلغهم بأنه «يفضل أن يلقى وجه ربه بمصر». وسبق وأن أصيب بكسر في منطقة الحوض خلال زيارة له لباريس في الأشهر الماضية، حيث أجريت له جراحة هناك، عاد في أعقابها للقاهرة. وفي آخر اتصال هاتفي مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، مساء يوم الخميس الماضي، عرض السيسي نقله خارج البلاد للعلاج، مؤكدًا مكانته العلمية والسياسية في مصر والعالم، وما يمثله من قيمة كبيرة لدى الشعب المصري، لكن غالي رفض مفضلا العلاج بالداخل. ولد بطرس غالي في محافظة بني سويف (جنوب القاهرة) في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1922، لعائلة قبطية وأم أرمينية، وهو حفيد بطرس نيروز غالي رئيس وزراء مصر في أوائل القرن العشرين الذي اغتاله إبراهيم الورداني. وقد تزوج من ليا نادلر، يهودية مصرية من الإسكندرية. تخرج غالي في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1946، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس عام 1949. وفي أعقاب عودته إلى مصر، عين رئيسا لقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة منذ عام 1949 حتى عام 1977. عين الراحل وزيرا للدولة للشؤون الخارجية في عهدي الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك من أكتوبر (تشرين الأول) 1977 وحتى مايو (أيار) 1991، وعضوا بمجلس الشعب (البرلمان) عام 1987، كما تقلد منصب نائب رئيس منظمة الاشتراكية الدولية 1990، ثم نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية في مايو 1991، وترك هذا المنصب بعد انتخابه أمينا عاما للأمم المتحدة عام 1992، كأول عربي يتولى هذا المنصب. تولى غالي ذلك المنصب الرفيع في الفترة من 1992 وحتى 1996، وهي الفترة التي سادتها صراعات في رواندا والصومال وأنغولا ويوغوسلافيا السابقة، ولم تمتد رئاسته لفترة ثانية بعد رفض الولايات المتحدة طلب مصر تمديد فترة ولايته. حيث أعلنت الولايات المتحدة رسميا عزمها استخدام حق الفيتو إن قامت مصر بطرح التجديد لغالي. وقال مساعد وزيرة الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وكندا آنذاك ريتشارد هولبروك في مذكراته إن «موقف غالي من قضية البوسنة جعلنا مقتنعين بأنه لا يستحق فترة ثانية». وكان اقتراع غير رسمي، قد جرى وفقا للعرف داخل مجلس الأمن، حصل خلال كوفي عنان (الأمين العام التالي) على 12 صوتا مؤيدًا بسبب الضغوط الأميركية على دول المجلس، ورفضت مصر المضي قدما في خطوات ترشيح غالي لولاية ثانية، حتى لا تخسر عنان. يقول الدكتور نبيل العربي في كتابه «صراع الدبلوماسية» إن التقرير الذي أعده الدكتور بطرس غالي وفضح به جرائم الاحتلال الإسرائيلي في مجزرة قانا جنوب لبنان والتي راح ضحيتها 106 من المدنيين، أحرج إسرائيل أمام الرأي العام، وأزعج الولايات المتحدة، فاعترضت على التجديد له. وعن ذلك يقول غالي في حوار سابق: «هناك ضغوط مورست علي إذا نشرت هذا التقرير من واشنطن بشكل غير مباشر». عقب انتهاء فترة عمله بالأمم المتحدة انتخب رئيسا لمنظمة الفرانكفونية الدولية، كما انتخب رئيسا لأكاديمية القانون الدولي في لاهاي بهولندا، وكان حتى وفاته رئيسا لمجلس إدارة الأكاديمية، وهو أعلى مجمع فقهي قانوني في العالم ويجاور محكمة العدل الدولية بلاهاي. وهو الرئيس المؤسس للمجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر. شغل غالي أيضا مناصب رئيس الجمعية الأفريقية للدراسات السياسية، ونائب رئيس الجمعية المصرية للقانون الدولي، وعضو لجنة تطبيق اتفاقيات وتوصيات منظمة العمل الدولية، وعضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في باريس، ورئيس معهد القانون الدولي منذ عام 1975 حتى 1987. وعمل أيضا لفترة بالصحافة، حيث كان رئيسا ومؤسسا لمجلة «السياسة الدولية» منذ عام 1965 حتى تعيينه أمينا عاما للأمم المتحدة. وكان آخر مناصبه رئاسته للمجلس الأعلى لحقوق الإنسان في مصر، والذي استقال منه عام 2011. حصل الراحل على الدكتوراه الفخرية من جامعات أوبسالا السويدية، ورينيه ديكارت في باريس، وحصل على عدة أوسمة من كل من بلجيكا وإيطاليا وكولومبيا وغواتيمالا وفرنسا والأرجنتين والإكوادور ونيبال ولوكسمبورغ والبرتغال والنيجر وألمانيا الاتحادية واليونان وعدد من الدول الأفريقية، كما سبق وأن حصل على قلادة النيل، أعلى وسام بالدولة المصرية. وكان آخر تكريم حصل عليه، هو من الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال زيارته للقاهرة في يناير (كانون الثاني) الماضي، حين قلد 10 شخصيات عربية من بينهم الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة وسام جائزة المساهمات البارزة للصداقة الصينية العربية، تقديرا للمساهمات البارزة التي قاموا بها من أجل تعزيز العلاقات بين الجانبين العربي والصيني. وخلال الحفل الذي أقامته، جمعية الصداقة الصينية مع شعوب العالم، حرص غالي على المشاركة في هذه المناسبة رغم ظروفه الصحية، وألقى كلمة أشار فيها إلى أنه وطوال مسيرته السياسية والدبلوماسية كان يدعو إلى تعزيز التفاهم والتعاون بين شعوب العالم كافة رغم اختلاف اللغات والديانات والقوميات والأعراق، وقال: «إننا ننتمي جميعا إلى مجتمع واحد، وهو المجتمع الإنساني». عرف عن الراحل طرحه لكثير من الأفكار والمبادرات الشجاعة ومنها «الولايات المتحدة العربية». وقد نشر مذكراته عن الفترة الخاصة بالأمم المتحدة في كتابه الشهير «خمس سنوات في بيت من زجاج».