قبل نحو 5 عقود، نشأ شارع المنصور الشهير في العاصمة المقدسة، ليصبح جزءا من تاريخ السكان وجغرافيا المكان، مشكلا مع شوارع وضواحي أخرى في المدينة العتيقة أرشيفا للذاكرة والمخيّلة الشعبية التي ارتبطت بحكايات الصبا وتجليات المشيب. لم يبق الشارع صامدا أمام حركة النهضة والتحديث التي تشهدها مكة المكرمة، إذ لحقته نقلة كبرى، حين قررت حكومة المملكة استقطاع محاور منها لصالح طريق محوري يربط المدينة المقدسة مع جدة فضلا عن كون المشروع نفسه يعد فصلا جديدا من فصول تحويل مكة المكرمة إلى مدينة ذكية، ولم يكن يسيرا على سكان «المنصور» وداع منازلهم وأطلال ذكرياتهم، فارتحلوا عنها وقد سبقتهم أحلامهم، تاركين خلفهم معاول البناء والآليات تفرض لغتها على التضاريس والذكريات. تميز الشارع العتيق، بمتاجره وسلعه الشعبية وبريق الذهب اللامع في واجهات المحلات ومطاعمه وروائح بهاراته، مثلما تميز بانصهار الثقافات، إذ ظلت «دككها» ومجالسها وصالوناتها منتديات للمؤانسة والمثاقفة والأدب، ولعل تنوع الحي أثمر أيضا عن مسالب وظواهر لم تكن في الحسبان برغم خصائص المكان في الجانب الاجتماعي الصارم. ومن المستجدات التي شهدها الشارع العريق وأهالي «المنصور» الامتداد العمراني الأفقي والعفوي الذي نتج عنه نشوء تجمعات عشوائية اجتذبت مئات من الضيوف بمختلف جنسياتهم وأعراقهم وثقافاتهم، ومن الضيوف من طابت له الإقامة بلا هوية، الأمر الذي يخلق هاجسا أمنيا في الشارع والحي على حد سواء فضلا عن أن الامتداد العفوي خلق مشكلات خدماتية، إذ تعثرت محاولات الجهات المختصة في رفد الامتدادات بالخدمات الأساسية، وتنبهت أمانة العاصمة المقدسة إلى ذلك فوضعت خططا للتطوير ومعالجة العشوائيات. لا تخطئ عين الزائر للشارع للعتيق أحياء تحيط بها، كالطندباوي، الهنداوية، الحفاير وأجزاء من الرصيفة، ومن المفارقات أن عمليات الإزالة والإصحاح التي طالت «المنصور» قد انتزعت كلمات الوداع من شفاه سكانه القدماء ورسمت أيضا الفرحة على شفاه لصوص الكيابل النحاسية ومخلفات شركات الاتصالات وبقايا الأبنية وأجهزتها البالية، إذ وجدوا في الأطلال تجارة مربحة لهم في السر والعلن. وبحسب مراقبين فإن الأبنية التي طالتها عمليات المسح والإزالة بلغت نحو 700 متجر ظلت طوال خمسة عقود هي السوق التجارية الكبرى في شارع المنصور، الذي استمد اسمه نسبة إلى الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله-، ويحتضن الشارع عدة قصور وبيوتات شهيرة فضلا عن دواره الأشهر (النافورة). ليس بعيدا عن المنصور، يطل «حوش بكر» الضاحية التي اكتسبت خصائصها من الشارع، عشوائيته، وثبتها المرتقبة، وثقافات سكانه، فالغوص في أعماق الحوش أشبه بالمغامرة وارتياد الخطر، إذ استدعى الوصول إليه استخدام معدة ثقيلة تحسبا لمخاطر من يعتبرون أي غريب مهددا لهم ومعكرا لصفوهم! ما عرف عن حوش بكر، في الذاكرة الجمعية لزائري مكة المكرمة، أنه ساحة للباعة للطائشين والمغامرين وملاذ المجهولين والغرباء من كل جنس ولون، غير أن الحقيقة أيضا غير ذلك؛ فالمكان سوق عملاقة تفرش على ترابها كل شيء حتى شاع لدى البعض إطلاق اسم «سوق الحرامية» بما في ذلك من ظلم لآخرين يكسبون أرزاقهم بالحلال. أزقة السوق الشعبية في حوش بكر لا تسع المركبات، وكلما ضاقت الأزقة ارتفعت معها أصوات الباعة وهمهمات الغرفة الضيقة التي يقطنها عمال من مختلف الجنسيات يهدرون نهارهم في النداء على الزبائن ثم يخلدون إلى بيوتهم الصغيرة قبل الركض مجددا في الأزقة. كل شيء في سوق حوش بكر قابل للبيع، مأكولات أخفى باعتها تاريخ صلاحيتها، مساحيق تجميل لا أحد يعرف أين صنعت، وعمليات سمسرة تحدث في الخفاء وعلى أطراف الأزقة، ويقول أحد أصلاء الحوش: أن كثيرين من الأفارقة وأهل آسيا خرجوا بثروات لا حد لها من العمولات وفي سمسرة الخادمات وتحريضهن على الهروب من كفلائهن!