الآباء المهتمون بأولادهم، نوعان، منهم الطّموح المُغاَمر الذي يدفع وَلده ليُحلّق عَالياً، فيقول لابنه: أي بُنيْ، لا تَيْأس، حاول مرّة أخرى، واسعَ في أرْضِها وسمائِها وبحرِها فإنّ في الحَرَكِة بَرَكَة، وأما الثاني، القَنوع الوَجِل، فيحذّر وَلَده من المجهول، ليبقيه في دائرته، فيقول له: أي بُنيْ، لا تُغَيّر طريقك إلى المدرسة، ولا طريق العودة فإن كثرة الرفرفة تقصقص الأجنحة. وللمفارقة، أنه في الحالة الأولى، يَطير الولد ويتعلم، وقد يتساقط منه بعض الريش، أو يسقط فتصيبه رضوض، أو حتى كَسْرٌ ما كما أصاب عباس بن فرناس، قبل أن يدرك أن جاذبية الأرض لوزنه أقوى من أجنحته الخفيفة المستعارة وذراعيه الضعيفتين، لكنّه حاول وخاض التجربة التي لم تقتله، كما يَعتقد الكثيرون. وقد يصيب الولد أو يخطئ في صنيعه ويضيع عن وجهته، ولكنه تَعلّم ورأى عالمه ومكانه ومكانته. أما في الحالة الثانية، حيث الولد الذي صان له أبوه أجنحته، فغدت منتفخة لاحمة من كسلها، وأمسى كدجاج المزارع، مطأطئ الرأس لا ينقر إلا أسفله، ولا يرى إلاّ الحبوب الصغيرة، ولا يرفع رأسه إلا وَجِلاً من مجهول قد لا يأتي أبداً، فتخيفه الظلال، والهواء إن حف أوراق الشجر، ويرتبك مع أي تحول بسيط في الروتين اليومي المرسوم. من يخشَ الغد يكبر في الأمس، ومن يستعذب النوم يبقَ غارقاً في حُلُمِه، ومن لا يصعد عناء التلال، لن يكتشف أبداً أن ثمة نهر جارف خفي، وأن حدائق غناء تتمايل على ضفتيه خلف تلك التلال. ولو بقي ينبش سطح الأرض، يقتات الفتات، ما عرف أبداً أن في باطنها عذب بالماء. ولو ربينا أولادنا ليكبروا ليعيشوا في الماضي، ما نهضت عقولهم أو أفكارهم وما نهضوا بمجتمعاتهم. إن هذا الحراك المتجدد الدائم في هذا الكوكتيل المُرَكّب من العلوم بأصنافها والنتاج الإنساني بتعقيداته، ومن البشر بأطيافهم وأنواعهم، لا بد أن يكون الولد فَطِنَاً حَذِقَاً لمّاحَاً ذكيّاً، يرث من الآباء فطنتهم وتجاربهم وحكمتهم، ومن الحياة أنهارها وحدائقها وَفُرَصها دون ضَرَر أو إضْرار. فمن يجمع الفطنة والحكمة والعلم والمعرفة بالتجربة والممارسة، سيكون رفيقاً وصديقاً ومخلصاً لمن منحه وعلّمه الحياة الواسعة، وناوله مفاتيحها، سواء أكان المُنَاول قريباً أم مُلْهِماً، قائداً أم سيداً، مدرّباً أم معلّماً. قال لي صديقي الإماراتي، المنتج الموسيقي والفني المعروف، علي الياسي، إنه بعد سنوات، أدرك حكمة والده بأنه درج عادته أن يصطحبه إلى مجالس الرجال، حيث تَشَرّب الحَديث، وتَلَمّس أدوات الحكمة وتَقييم الأشياء من حوله، ما مكنه من أدوات اتخاذ القرار في شؤون الحياة، واستنشق القيم والأخلاق، وتَشرّب حسن التعامل واحترام الكبير والصغير، وإنصاف الضعيف، ومساعدة الآخرين قدر المستطاع، ومحبّة الوطن ورموزه بالفعل والعمل، علّمه ألا يحكم على الناس من مظهرهم، وعلّمه أن يَستمِع ويُنْصِت أكثر مما يتكلم، إذ إن الحضور لا يكون بالكلام وحده فقط، فالغياب الكامل يكون بالكلام الفارغ. ويقول صديقنا: تعلّمت من مجلسه أن حِسْ الفكاهة الساخر وسرعة البديهة، هما أعلى مراتب الذكاء، فإذا رأيت أحدهم سريع الاستنتاج لفوارق الأمور، وسريع النكتة التي لا تخلو من عبرة وحكمة، فاعلم أنه خير من تصادق، وأضاف لحياة رفيقه نكهة من نوع خاص، وبعداً وكشفاً جديداً. جاء قول صديقي هذا، في وارد حديثي معه حول رأيي حول تفاعلاته مع البشر وتصرفه في المواقف التي صادفته، إذ إن هذه التفاعلات تعتمد على منظومة معرفية ونفسية واجتماعية متكاملة وناضجة، جعلته منسجماً مع ذاته أولاً، ومع الآخرين ثانياً. وقد امتلك صديقنا ببساطة وعفوية، قدرة هائلة لبناء الثقة مع الآخرين على اختلاف مواقعهم واهتماماتهم، لم يَبْلغ الأربعين من عمره بعد، ولكنه عاشق للحياة، فيعيش السنة بثلاثة أضعافها بكل سهولة وبلا تصَنّع. ويمكن القول إنه لا يكلّ ولا يتعب من اكتشاف النهر خلف الأكمة، وهو دائم التحليق بخياله عالياً، ليروّضَه فكرة فيحوّلها واقعاً وعملاً إبداعياً وفنيّاً. ثمة أشخاص نصادفهم، ماهرون في هندسة أمور حياتهم وقدرتهم غير العادية في التحكم فيها، والانتقال بين يومياتهم بمهارة وسرعة وسلاسة، فيكونوا قادرين على الإنتاج، ضمن منظومة متناسقة، يشَكِّلُون مستقبلهم ويستثمرون فيه، وعلى الرغم من صِغَر سنّهم، تجدهم باقة من النشاط والتجربة والحياة، لذا، فإن حضورهم القوي والمؤثر بالعفوية بين الآخرين، هو السهل الممتنع على الكثيرين ممن يتوددون ويتملّقون وينافِقون حتى تصيبهم الشيزوفرينيا، فيلبسون من الأقنعة والوجوه ما يكفي لضياعهم وشرخهم، فكما يقول أفلاطون الفيلسوف أصعب أنواع الصداقة كافة، هي صداقة المرء لنفسه، ولا يمكن أن يصادق المرء نفسه أو الآخرين إذا لم يكن صادقاً معها، فالصدق أساس الثقة في النفس والآخرين، وهو مفتاح المحبة بين الناس، وهو المُنْتَج الدائم بين الناس المخلصين لأنفسهم ولمحيطهم ووطنهم.