جاء تحقيق المنجز الحضاري لبناء الدولة والمجتمع وصياغة معطيات الحياة الكريمة والآمنة أهم تحدٍ واجهه الملك عبدالعزيز رحمه الله عند مرحلة تأسيس هذا الكيان الكبير بأقاليمه وحواضره وبواديه تحت راية التوحيد والعدل والمساواة، ولم يكن ليتحقق إلا من خلال كفاح وجهد وجهاد، حيث كرس المؤسس جل حياته من أجل تحقيقه مع ما رافق ذلك من تحديات متعددة كان المجتمع يعاني منها، إلى جانب غياب التنظيمات تساعد الناس على تحقيق معادلة اقتصادية مكتملة الجوانب، حتى أن هذا المجتمع لم يكن يمارس عمليات البيع والشراء من خلال عملة نقدية تخصه، بل كان يعتمد على عملات نقدية لدول أخرى في الشرق والغرب وبالتالي فقد كان المجهود الذي قام به الملك عبدالعزيز جهدا عظيما وقد برزت عظمة هذا الانجاز من خلال اختصار الزمن ومواكبة المجتمعات المحيطة به تنموياً، بل تفوق على معظمها مستثمراً المكانة الجغرافية لهذا الكيان وأهميته الإستراتيجية وما تختزنه أرضه من ثروات طبيعية، إلى جانب وجود الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وهذا ما جعل المملكة تحتل أهمية بالغة لدى جميع الشعوب العربية والإسلامية، وفي هذا الجانب استطاع الملك عبدالعزيز أن يحقق تحديا آخر ومهما لتلك الشعوب وهو توفير الأمن والأمان للحجاج والمعتمرين والزوار. بداية التحدي يقول الباحث في أنظمة الحكم السعودي د. فهد النافع: ونحن نحتفل بذكرى مرور 85 عاماً على توحيد بلادنا نتذكر عظمة تاريخ المرحلة التي حكم فيها جلالته بدءا من دخول الرياض مروراً بفتوحاته المتواصلة لبقية أجزاء الدولة وضمها في حكمه حتى وفاته رحمه الله والتي دامت 52 سنة، هنا يجب أن نستحضر أن هذه المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية مليئة بتحديات قد أجزم أنها غير موجودة في أي دولة من العالم، هذه التحديات التي واجهها الملك عبدالعزيز واستطاع تخطيها بكثير من التضحيات، جعلت الحديث عن تأسيس دولة لم تكن أصلا موجودة ما هي إلا معجزة يشهد بها الاعداء قبل الاصحاب ولذلك يعد تأسيس الدولة من أهم التحديات التي واجهت الملك عبدالعزيز خصوصاً أنه يحتاج كثيرا من المقومات التنموية حتى تسير الدولة مع الدول المجاورة والتي كثير منها قريبا خرجت من يد المستعمر وقليل منها ما زال تحت يد المستعمر. وأضاف بأن المهمة التي يحتاجها الملك عبدالعزيز رحمه الله ليست مقتصرة على اعادة حكم آبائه وأسرته، بل الامر تخطى ذلك وهو ربط جميع أطراف الجزيرة العربية الممتدة والتي مساحاتها تتجاوز مساحات دول اوروبية مجتمعة. وقبل ذلك كله احتاج ضبط الامن المفقود في كثير من المناطق الذي يعد أكبر نعمة تتمتع بها هذه الدولة منذ العهد السعودي الحديث ومازالت تنعم به الى هذا العهد الزاهر. الفقر والجهل وأوضح أن من التحديات التي واجهها المؤسس بعد توحيد الدولة واستتباب الامن فيها، هو كيفية القضاء على الآفات الاجتماعية وهي الفقر، والمرض، والجهل، في دولة لا يوجد فيها أي مقومات تغري الحياة والعيش فيها آنذاك إلا أن كل هذه العثرات لم تحبط الملك عبدالعزيز في اكمال كل ما تحتاجه الدولة الوليدة، وشكل وزارات السيادة التي بوجودها تتشكل الدولة ويعترف بها من بقية الدول ويكون لها كيانها واستقلاليتها، حيث بناء الدولة ظهر في بداية التأسيس بوجود وزارات السيادة الأربع (وزارة الداخلية، والخارجية، والدفاع، والمالية) قبل تأسيس مجلس الوزراء، إضافة إلى وجود الهيئات أو اللجان أو المجالس التي تخدم الوطن ومصالح المواطنين إلى أن أصبحت وزارات قائمة بذاتها، لافتا إلى أن مؤسس هذه الدولة بدأ معتمداً على الله، ثم على رجاله المخلصين الذين ساندوه في بناء الدولة الوليدة، وهكذا سارت حتى صارت دولة تلعب دوراً رئيسياً في الاقتصاد العالمي ودوراً مميزاً في قيادتها للعالمين العربي والإسلامي، لأنه وثق بربه أن هذه الدولة ستستمر بحول الله محكومة بقيادته ومن بعده أبناؤه وأحفاده فسمّاها بهذا الاسم الذي تتسمى به الدولة حتى اليوم. خصوصية نظام الحكم وقال الباحث في أنظمة الحكم السعودي: لعل ما يميز التنمية المحلية في المملكة هو خصوصية نظام الحكم الذي بني على أساس تطور تدريجي وغير متسارع، نتيجة أن أسلوب التطور المتدرج لنظم الإدارة المحلية ساعد على المحافظة على التنمية المتوازنة دون الوقوع في التسرع غير المحسوب أو اللهفة إلى تحقيق تنمية تزحف سلبياً على بعض مظاهر الاستقرار والذي ساعد على تحقيق معدلات أعلى تفوق المعدلات السائدة في دول العالم الثالث، وأكد أنه بالعودة للتحديات التي وقف الملك عبدالعزيز لمواجهتها هي قضاؤه على أي صوت جهل او تطرف أو فكر يقف أمام تطور هذه البلاد، بل شجع على العلم رغم ضعف الامكانات في ذاك الوقت، وحاول أن يواجه التحديات بالطرق التي تناسبها ويدرك رحمه الله أن تعليم المواطنين العلم الشرعي هو الطريق الصحيح لتوجيه الناس والبعد عن التطرف والغلو والجهل. المحافظة على المنهج وتغيرت مراحل الإدارة المحلية في عهد ملوك الدولة السعودية الحديثة، نتيجة السعي لمواكبة كل مرحلة، مع المحافظة على منهجها المستمد من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن الصعب أن تظل الإدارة المحلية في نفس التنظيم الإداري مع المتغيرات التي تمر بها دول العالم من موجات التغيير والتطوير والإصلاح، وخصوصاً السعودية التي تمسك بقيادتها للعالمين العربي والإسلام وتأثيرها العالمي بجوانب مهمة، دليل حرص القيادة منذ نشأت الدولة حتى هذا الوقت أنها لم تقف على النمط التقليدي في جميع وحداتها الحكومية بكل قطاعاتها، بل عدلت وغيرت وضمت وأنشأت حسب المرحلة والحاجة، وهذا يعكس تميز نظام الحكم الذي شكله الملك عبدالعزيز في بداية التأسيس. صدور نظام الحكم وأشار د. النافع الى أنه بعد ذلك صدر إعلان نظام الحكم في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه إبان توحيد الدولة في عام 1351 هجرية الموافق في 23 سبتمبر 1932 ميلادية، ولذا يعتبر نظام الأمراء الذي صدر في عام 1359ه – 1939م اللبنة الأولى في الإدارة المحلية للدولة السعودية بعد تأسيس نظام الحكم، حيث تم تسليم ولاية العهد ولأول مرة للملك سعود رحمه الله أي بعد سبع سنوات من توحيد الدولة كما تم تعيين الملك سعود نائباً للملك عبدالعزيز في المنطقة الوسطى والشرقية، وتعيين الملك فيصل نائبا للملك عبدالعزيز في الحجاز وبذلك وضع المؤسس الطريق الواضح لنظام الحكم الذي ستسير عليه الدولة، رغم أن نظام الحكم لم يكن مكتوباً الا بعد تولي الملك فهد الحكم بعشر سنوات، ألا أنه نظام منضبط ومتعارف عليه من قبل المؤسسة الحاكمة. تشكيل مجلس الشورى واستمراراً لمواجهة الملك عبدالعزيز كل التحديات لبناء دولته على النمط الذي يتمشى مع ظروف المرحلة التي يعيشها المجتمع السعودي في ذاك الوقت، حيث أخذت الشورى في عهده عدة أشكال، بدايتها المجالس الأهلية والهيئات الاستشارية، والمستشارون لجلالته واللجان المتخصصة وأهل العلم والأعيان ورؤساء العشائر والقبائل، ثم تلا ذلك أول تنظيم رسمي لمجلس الشورى عام 1345ه باسم المجلس الاستشاري الذي يتكون من أعضاء غير متفرغين ومع اتساع رقعة الدولة السعودية وزيادة الأعباء والمهمات، صدر الأمر الملكي الكريم رقم 37 في 9\1\1346 ه الموافق 1927م بتشكيل أول مجلس للشورى حيث افتتح الملك عبدالعزيز مجلس الشورى، وترأس الجلسة الأولى صبيحة يوم الأحد في 17\1\1346ه وقال فيه "علينا اتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله محمد تنفيذا لأمره سبحانه وتعالى حيث قال: وشاورهم في الأمر" ثم قال "ولو لم يكن من مصالح الشورى إلا إقامة السنة وإزالة البدعة لكفت". تشكيل مجلس الوزراء وقبيل وفاته بثمانية وعشرين يوما أصدر مرسوماً ملكياً بتشكيل مجلس للوزراء، وبناءً عليه أسندت رئاسة المجلس - وما يتبع ذلك من سلطات - إلى ولي العهد الأمير سعود وبعد أن انتقل الملك عبدالعزيز إلى الرفيق الأعلى، وأصبح الأمير سعود ملكا على البلاد، بقي الملك سعود رئيسا للمجلس لمدة خمسة أشهر وأربعة عشر يوما فقط، ثم عين الأمير فيصل - ولي العهد - رئيسا لمجلس الوزراء، وهنا يوضح د. النافع أن الملك عبدالعزيز وهو يصدر مرسومه الملكي الكريم بتشكيل أول مجلس للوزراء بالدولة في أخر أيامه يعكس همته التي بدأها في شبابه وهي بناء دولة حديثة مكتملة تستطيع أن تنهض بدورها الداخلي في شتى مجالات الحياة من التعليم، والصحة، والزراعة، والمياه، والطرق والمواصلات وغيرها مما يعود بالنفع على كل المواطنين، وبتوفيق الله ثم عزيمته ومن بعده أبناؤه الملوك سعود، فيصل، خالد، فهد، عبدالله رحمهم الله جميعاً، ثم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله فتحولت بلادنا من الفقر لتصبح ثالث دولة في العالم تتسابق عليها الاستثمارات الأجنبية، وتحولت من المرض الى دولة متقدمة في الطب ومستشفياتها تجرى فيها عمليات لا تجرى في أي مكان من العالم، وتحولت من الجهل الى دولة تصدر العلم الى العالم الاسلامي وعلماؤها مرجعية للمسلمين في جميع أنحاء العالم، كما لم ينس جلالته أن يكون لهذه الدولة الدور القوي في المحافل الدولية وعلاقاتها الطيبة مع الدول العربية والإسلامية والصديقة فأصبحت هذه الدولة الوليدة حاضرة في المحافل الدولية، ومؤسسة لكثير من المنظمات، من هنا نقول ان الملك عبدالعزيز نجح في مواجهة كل التحديات وهو يؤسس هذا الوطن، وبهذا يكون قد أنجز معجزة العصر الحديث والتي هي مفخرة لكل الأجيال التي تنتمي لهذا الوطن على كل مراحل ملوك هذه الدولة وهي تعيد ملحمة التوحيد التي سطرها مؤسس هذه البلاد حتى أصبحت تعيش في رخاءٍ وأمنٍ واستقرار. الوحدة الأعظم من جانبه يقول د. صالح الصقري - الملحق الثقافي في الصين سابقاً - تعتبر الوحدة التي قام بها الملك عبدالعزيز رحمه الله ابرز وأعظم وحدة شهدها العصر الحديث وتأتي أهمية هذه الوحدة من كونها تميزت بالشمولية التي تغطي المكان والإنسان، المكان بكل تضاريسه المتنوعة في أرض صعبه الاختراق، وصعب تكييف الحياة فيها أو السير فيها، إن هذه الوحدة الوطنية الجغرافية لم تكن بالأمر السهل في البداية فقد مرت بظروف وتحديات ضخمة كان من ابرزها العوامل الجغرافية فالمملكة قارة كبيرة تحتوي على جميع انواع التضاريس الطبيعية الصعبة من صحراء جرداء شحيحة في مقومات الحياة الى جبال صعبة الاختراق ومناخها اما حرارة لا تطاق في الصيف او برودة قاسية في الشتاء وهذا لا شك يتطلب نوعا خاصا من الرجال ونوعا من العتاد لكي تستطيع العمل والحرب في ظروف استثنائية. تحديات كبرى وأضاف: من التحديات الكبرى التي واجهتها الوحدة الظروف الاجتماعية من انتشار للجهل والمرض والفقر وهذه كافية لوحدها لتعطيل اي مسيرة للبناء وكادت النظرة الخاطئة للتحديث واستخدام الوسائل العلمية المعاصرة ان تعطل مسيرة الوحدة لولا جهود الملك عبدالعزيز رحمه الله ومعه بعض العلماء في احتواء الامر عن طريق الحوار الذي ساهم في مزيد من الوحدة والاستقرار، هذا إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها شبه الجزيرة العربية والموارد المالية المحدودة والتي كانت كافية لتعطيل مسيرة اي عمل تنموي فما بالك بامر عظيم كتوحيد بلد بحجم قارة ودمج ومزج بشر في بوتقة خاصة، إلا أنه ورغم هذا استطاع التغلب على ذلك وتوحيد البلاد والعباد فيما نعرفه ونعيشه الان باسم المملكة العربية السعودية، ولقد اسهب المؤرخون والمحللون من علماء الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرهم من الباحثين عن العوامل التي ادت الى تحقيق هذه الوحدة البشرية والجغرافية والتي اعتبرت أضخم وحدة شهدها التاريخ الحديث ولعل من ابرز هذه العوامل توفيق الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل ومن معه بان حفظهم في المعارك التي خاضوها ونصرهم على اعدائهم وكاد الملك عبدالعزيز رحمه الله ان يذهب ضحية لهذه المعارك الشرسة كما أن شخصية الملك عبدالعزيز وما امتاز به من ذكاء ودهاء وحنكة في التعامل مع الرجال حولت خصومه الى رجال مخلصين له فكان السلم والحوار وتقدير الرجال وإعطاء كل ذي حق حقه وتواضعه مع الجميع وسماعه لهم وحزمه في الامور تحتاج الى الحزم تعتبر كلها منهجا له نجح فيه الى كسب قلوب الناس على مختلف اماكنهم وقبائلهم، لافتا إلى أن المجتمع في تلك الفترة كان يتطلع الى منقذ لهم من الشتات والفرقة والحروب وكانوا يرون في الملك عبدالعزيز القائد الذي يمكن ان يحقق لهم الأمن والأمان. رؤية سياسية ثاقبة ويرى الصقري هنا أن من نجاح هذه الوحدة واستمرارها الرؤية السياسية الثاقبة للملك عبدالعزيز في المجال الداخلي والمجال الخارجي وهذا جزء من التحديات التي عالجها رحمه الله فقد استطاع بفكره ودهائه السياسي أن يتعامل مع القوى الدولية المحيطة بالمملكة واستطاع أن يجعلها تقف بجانبه وأن يحولها من المواجهة إلى التعاون معه وكذلك مع دول المحيط العربي والإسلامي والدولي، فقد استطاع أن يكسب ثقة الحكومات والشعوب وأن يؤسس لعلاقات دولية راسخة تلتزم مبدأ التعاون والسلم وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وكان لهذه السياسة الفريدة في وقتها واهتمامه بقضايا الأمتين العربية والإسلامية كقضية فلسطين وتحرير بعض الشعوب من الاستعمار وحرصه على مبدأ السلام والأمن الدولي جعل هذا البلد يحتل مكاناً مرموقاً بين الدول والمنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، لهذا يكون الملك عبدالعزيز قد نقل المملكة من الانكفاء الداخلي إلى دولة يحسب لها ألف حساب في السياسة الدولية، ولهذا لا نستغرب حينما يقوم زعماء العالم بزيارة المملكة والتوقيع معه على اتفاقيات إستراتيجية مستقبلية تعود على المملكة بالنفع والبناء والتطوير وبما يحفظ لها أمنها واستقرارها وكنتيجة عن هذه الرؤية الثاقبة في السياسة الخارجية والتعاطي معها أن جعلت من هذا البلد هدفاً لتحقيق أكبر تنمية اقتصادية وبشرية شهدتها المملكة في تاريخها المعاصر فقد أقبلت الشركات الاستثمارية من الشرق والغرب تبحث عن فرص الشراكة الاقتصادية في الكثير من فرص التنمية واستغلال ما تحتوي عليه هذه الأرض الطيبة من ثروات طبيعية متنوعة وكان من نتيجة ذلك ظهور النفط لأول مرة في هذه البلاد والذي يعتبر تحولاً ضخماً في مستقبل المملكة، وقد استثمر هذا المورد الاقتصادي الضخم في دفع عجلة التنمية والبناء الجديدة التي تشهدها هذه البلاد وكان ذلك في مجال التعليم والصحة والنقل والزراعة والصناعة وبناء الإنسان وبيئته النموذجية، وتبع ذلك البدء بإنشاء الأنظمة المؤسسة لقيام دولة مدنية حديثة تجمع بين العلم والمعرفة والجمع بين الأصالة والمعاصرة مرتكزة على الشريعة الإسلامية كمنهاج حياة لها، والاستفادة من التقنيات المعاصرة.