خلال 20 عاماً مضت، مَرّ على الميادين والطرق كبار ممارسي التفحيط أو التقحيص بالسيارات، اشتهروا، وانتشروا، ونالوا التصفيق الحار وعبارات التشجيع والثناء من جمهورهم الخاص، ابتكروا حركات جديدة وأنواعاً مختلفة، ثم يختفون فجأة.. فأين ذهبوا؟ هل أصبحوا قادة في المستقبل؟ هل تَمَيّزوا في حياتهم؟ هل تَخَلّصوا بالكلية من ماضيهم؟ كانت هذه الأسئلة تدور في ذهني وأنا أبحث هذا الموضوع.. من سنوات تَبَدّل جيل من مشاهير التفحيط، وجاء جيل آخر وآخر، ولا يزال الوضع يسوء.. فأين ذهب الجيل السابق، وماذا وجدوا من وراء التفحيط، ولماذا لم يتّعظ شبابنا منهم؟ الكثير من أبنائنا يمارسون التفحيط أو التقحيص ويصوّرون مآسيه وحوادثه ويعلمون خطورته، ولا يتعظ إلا القلة منهم.. لماذا؟ غالبية الأسر الخليجية ترى مصائبه من سنوات، وتعلم أسباب انتشار ظاهرة التفحيط، ولا تتعظ ولم تتعلم.. لماذا؟ وظاهرة التفحيط في ازدياد من سنوات، والجهات المختصة بلا نظام للتعامل معه، ورعاية الشباب بلا برامج تعالج الظاهرة، والمرور والدوريات الأمنية تتعامل حسب الظروف.. لماذا؟ من سنوات وجهود بعض الجهات غير المختصة بالدرجة الأولى في هذا الموضوع، تقوم على التجربة والاجتهاد، وتحمل مسؤولية غياب غيرهم. من سنوات طويلة تَبَدّل المشاهير فيها واشتهر آخرون ثم غابوا.. فأين ذهبوا؟ وماذا كان مستقبلهم؟ ولماذا لم نُوَعِّ شبابنا بقصصهم؟ ولأن هذا سؤال مهم في التوعية للشباب ومن واقع تجربتي واعتراضي لطريق بعض المفحطين بلطف والحوار معهم، وجدت أن أفضل وسيلة لبدء توعيتهم هي سؤالهم بحلم وابتسامة: أين ذهب كبار المفحطين؟ ما مصيرهم؟ أين هم الآن؟ لاحقت شاباً يافعاً يفحط على سيارة والده الصالون، وتوقف ونزل من سيارته يريد أن يعتدي عليّ.. فابتسمت في وجهه وكأنني أعرفه من زمن طويل، ورحبت به بحرارة، وسلّمت عليه، وأحسست كأنني صفعته؛ فقد تَبَدّل وجهه وخارت قواه السابقة.. ثم قلت له: أنت أخوي الصغير وأنا ما أبي شئ يضرك.. فصمت بلا حرف واحد.. سألته: قد يصفّق لفعلك مئات الشباب! وتدمع لك أعين اثنين فقط -هما والداك- حزناً وألماً! فهل يرضيك؟ وهل تظنه فعلاً مشرفاً؟ فبكى.. نعم بكى!! كان قبل قليل هو سيد الطارة، ومرعب الشوارع؛ ولكن سؤالاً بسيطاً بَعَث ألماً في دواخله، ولم يتمالك معه مشاعره، وقال: والله من الطفش. استعرضت معه قصة المفحط الشهير بمنطقة عسير الملقب بـبدل فاقد، الذي تسبب في مصرع وإصابة ستة شبان خلال حادثة التفحيط، ولا يزال في السجن، وسيحاكم بالقصاص.. وذكرت له قصة المفحط الشهير الذي كان يتابعه عن طريق موقعه الإلكتروني المخصص للتفحيط 70 ألف شخص؛ ولكنه خسر حوالى عشرة من أصدقائه في حوادث تفحيط، وتَسَبّب في عاهات للكثيرين؛ فعاد إلى رشده وحوّل موقعه للتوعية عن هذه القضية؛ ولكنه لا يزال يعاني نفسياً من ماضيه. وسردتُ له قصة أحد الشباب المفحطين المشهورين، وهي حادثة مشهورة عام 2006، أثناء قيادته لسيارته من نوع كامري في شارع غروب الدخل؛ حيث احترقت بالكامل وتوفي داخلها 3 من الشباب، وحوادث أخرى حديثة تطاير منها كبار المفحطين من سياراتهم ووقعوا جثثاً هامدة. كل هذه القصص كنت أسردها عليه وهو منصت وكأنها يسمعها لأول مرة؛ مع علمي بأنه يعلم كثيراً منها؛ لكنها كانت تأتيه بأسلوب التشويق لا التحذير، واختتمت حديثي معه بأسئلة ستكون أمامه كلما حاول أن يعود إلى هذه الحالة: هل تعلم أن كثيراً من المارة والساكنين يدعون عليك؟ هل تعلم أنهم يرددون حسبنا الله ونعم الوكيل كلما ضايقتهم بالتفحيط؟ وفيهم العجوز والمريض والطفل!! أنت حتماً ستفقد السيطرة على السيارة بانحراف أو خروج شخص أمام وجهك من الشارع فتدهسه، أو أحد المارة من كبار السن أو من العائلات أو من المصفّقين لك؛ فتكون سبباً -بعد الله- في إزهاق أرواح بريئة، وخاتمتك إما السجن أو القصاص أو المرض، وربما الموت بسبب حادث! وستكون قصتك مأساة لأهلك وعبرة لغيرك إن كان هناك مِن معتبر؟ فهل ستنتظر حتى تصبح عبرة لغيرك، أم تأخذ من تجربة غيرك العبرة وتتوقف مباشرة؟ ومن وحي قصة هذا الشاب وقصص أخرى، أستيقن أن الفراغ سبب رئيس، وقلة البرامج عامل مهم، بالإضافة إلى انتشار برامج وتطبيقات إلكترونية تحت مسمى هجولة ودرباوية في ألعاب البلايستيشن وتطبيقات الهاتف وغيرها التي تُعَلّم كل هذه التصرفات؛ ولكن يجب أن نقول قبلها: على الرغم من أن أفضل وسيلة للقضاء على الظاهرة مجتمعياً هي التوعية؛ فإن أفضل طريقة لتحجيمها أمنياً هو تجريمها، والقوة بالنظام في التعامل مع كل من يمتهنها. وأفضل حل دائم لها هو تفريغ طاقات الشباب وإشغالهم بما ينفعهم، بعيداً عنها وبعيداً عن كل ما يذكرهم بها، والحزم الدائم والمستمر في التعامل معها، والقضاء على كل مسبباتها. إن اللين في التوجيه والحزم في التطبيق مطلوب؛ لأن شبابنا غالبهم يعرفون مخاطر التفحيط، وأي متتبع لمشاهير المفحطين سابقاً والتقصي عن أحوالهم حالياً يرى العجب العجاب، وكيف أن هذه الظاهرة قتلت مستقبل المئات، وأفسدت غيرهم، وقضت على آخرين وفتكت بصحة البقية، وإن تبقى أحد فهو إما معاق أو سجين أو مدمن مخدرات ومريض نفسي.. ولم ينجُ إلا قلة قليلة رأت الموت بعينها وخسرت كثيراً ولا تزال تعاني نفسياً، وغالبية مَن تركوا التفحيط ونجوا منه من مشاهيره لا يزال يئن من ذكرى حادثه الذي مات بسببه صديقه أو عابر طريق، أو يموت كمداً وقد فَقَد والدته حزناً على حاله السابق، وأصاب والده بالأمراض لملاحقته من مركز شرطة إلى قضية مخدرات وشذوذ وغيرها، وكل شارع يذكرهم بمأساة وجريمة وحادث. مئات الأفلام التي يعج بها اليوتيوب عن حوادث الموت للمفحطين وقصص عن سبع جرائم خطيرة يتسبب فيها انتشار التفحيط؛ أولها: ترويج المخدرات، ثم السرقات وأيضاً الحوادث المرورية، ورابعها انتشار القضايا الأخلاقية وممارسات الشذوذ فيها، وخامس الجرائم حمل السلاح والتهديد، وسادسها قطع الطريق ومضايقة العائلات والاعتداء على العمالة من سالكي الطريق، وسابع الجرائم قتل النفس التي حرم الله.. وغالبية المراهقين ينظرون لهذه السلبيات من باب الإثارة وليس الحذر! ولذلك فإن انتشار هذه الظاهرة دون رادع، هو باب لمفاسد كبيرة ومخاطر أمنية واجتماعية واقتصادية كثيرة. ومع تداعيات كل هذه القضايا، نرى أن جهودنا لا توصف إلا بالضئيلة وخطواتنا بالعقيمة ومشاريعنا بالاجتهادات الخاطئة، ومن أسوأ الاجتهادات وضع مواقع لتفريخ مفحّطين جدد ضمن مشروع مسابقات الدرفت وغيرها؛ حيث كان الهدف من المشروع احتواءهم فتحوّل بطريقة تنظيمه وتطبيقه إلى مسرح لصنع مُفَحّطين جدد يتعلمون من المشاهير في الحلبة ويطبّقون في الشوارع، ويتحول بعد نهاية المسابقة غالبية الجمهور إلى ممارسة التفحيط، دون وجود أي برنامج توعوي تطبيقي في الموقع؛ وبذلك يكون المشروع تكراراً للسلبيات؛ ولكن بحماية نظامية. وبرغم ذلك؛ فإن هذا الاجتهاد يستحق أن نشكرهم عليه؛ فقد قُدّم من جهة ليست معنية برعاية الشباب في المقام الأول؛ ولكنها تُعَوّض غياب جهات أخرى لا تزال تركض خلف مباريات كرة القدم والتعصب الرياضي، وتناست المهمة الرئيسة في رعاية الشباب. وغالب الظن أن القضية إن لم تعالج بتخطيط وفكر مناسب ورؤية تنبع من أهمية الشباب ورعايتهم؛ فإن المجتمع سيعاني طويلاً وسيفحّط كثيراً في انتظار برامج لمكافحة التفحيط.