لقد وصلت الحداثة إلى نهايتها في زمن الحرب العالمية الثانية، فالمطّلع على اتجاهات الفنون البصرية، يجد أن كل حركة من حركاتها، قد ظهرت لتطور ما قبلها وتغير المفاهيم تبعاً للتقلبات والمتغيرات المحيطة بالفنان، فعندما نتحدث عن الحداثة، نقصد ظهور تيارات فنية لها أصول وقيم أكاديمية، ولكنها تحطم القيود التي فرضتها "الكلاسيكية" الصارمة، التي تميل إلى تطبيق القواعد والقيم الفنية بدقة متناهية، فإذا تحدثنا عن انتهاء عصر الكلاسيكية، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخداع البصر، لشدة محاكاته للواقع، نجد أن التيارات الفنية التي نطلق عليها الفنون الحديثة "Modernism"، قد بدأت ثورتها في عالم الفن منذ نهاية فنون عصر النهضة الأوروبية في مطلع القرن الثامن عشر، وبالتحديد عندما بدأ الفنان "تيودور جيريكو" بالخطوة التصويرية الرومانتيكية الفرنسية الأولى في لوحته المشهورة "غرق السفينة ميدوزا 1819م"، والفنان يوجين ديلاكرو في لوحته "الحرية تقود الشعب 1830م"، ومن هنا بدأ فن الرسم يأخذ مضموناً جديداً، فلم يعد هناك أهمية لما يرسم، بل المهم هو كيفية رسمه، وبذلك أصبح الفن مخالفاً للنظرة الكلاسيكية، إذ أنه لم يعد ترديداً كاملاً للطبيعة بقدر اهتمامه بالنظرة الحسية وليست العقلية، ومن هنا اقترب الفن رويداً رويداً إلى المذاهب الفنية الحديثة، التي انطلقت وواكبت الاكتشافات العلمية والفلسفية والأدبية والاجتماعية بعد ذلك، ومنها الرومانتيكية والانطباعية والرمزية والتكعيبية والتعبيرية والسريالية والوحشية والمستقبلية والميتافزيقية والسوبرماتزم والدادئية.. وغيرها. وماذا بعد الحداثة؟ في أواخر القرن التاسع عشر استخدم الفنان الإنجليزي "جون شامبان" مصطلح "ما بعد الحداثة "، وفي عام 1915م استخدمه الفيلسوف والكاتب الألماني "رودلف بانويتز" نفس المصطلح والذي يعرف باللغة الإنجليزية " postmodern art" إذ كلمة حديث "modern" هي في الأصل ترجع إلى كلمة Modo باللغة اللاتينية، ومعناها "الآن"، ولا بد من الإيضاح هنا؛ بأن فن ما بعد الحداثة يشير إلى فئة واسعة من الفن المعاصر، والتي تم إنشاؤها منذ حوالى عام 1970م فصاعداً، وان السمة المميزة لفنون ما بعد الحداثة، هو رفضها للجماليات التي تقوم عليها سابقتها من الفنون الحديثة، ورفضها لفكرة أن الفن شيء خاص، وتعبير حدسي منفرد، فاتجه إلى تجسيد الحقيقة الملموسة، ليتزامن مع مجموعة من التطورات التكنولوجية الجديدة والأشكال الفنية المبتكرة، بما في ذلك بعض من أنواع الفنون المفاهيمية، وفيه أدخلت التقنيات لتأخذ شكلاً آخر للفنون، وابتكار تركيبات تستجيب لحاجة الجمهور، فهي مجرد أفكار يعبر عنها الفنان بصورة مباشرة وباستخدام عناصر حية من الطبيعة، بل استخدام الطبيعة ذاتها، لتنفيذ فكرة العمل الفني، كما وجدنا النحات في تيار "ما بعد الحداثة"، يصنع جدران حلزونية، وأخرى دائرية نفذت في الطبيعة مباشرة، كظاهرة مستمدة منها وهكذا استخدمت فنون ما بعد الحداثة، الوسائل المستحدثة كالكومبيوتر والكهرباء والمغناطيس والميكانيكا؛ كوسائل للتعبير فقد اختار فنان العصر أدوات فنه، من مادة الحياة الحية صانعاً بذلك أنماطاً فنية تميزت بالبحث عن الجديد ونقد الأساس العقلاني والذاتي، واتجهت نحو التنسيق وإثارة المشاهد بالتهكم واستعادة الأبعاد الرمزية متعددة المعاني، في أعمال ما بعد الحداثية وكان في رأى الفيلسوف "نيتشه" (في نقد الروح الحديثة) أن الذات هي أساس العالم ومقياسه، بينما توحد اتجاه ما بعد الحداثة في انتقاد العقلانية والذاتية في الفنون الحديثة فأصبح كل شيء مباح في فنون ما بعد الحداثة. نستطيع أن نقرب مفهوم الغرب، أن النمط الرئيسي الأول للفن بعد عصر النهضة هو: الفن الذي يدرس من قبل أساتذة ومحترفين أكاديميين، وأن الفن الأكاديمي على سبيل المثال هو: ما يعادل لبس البدلة مع ربطة العنق التقليدية، والفن الحديث هو: ما يعادل لبس قميص وبنطلون، ويأتي فن ما بعد الحداثة ليعادل لبس الجينز مع سترة أو قميص وهذا الأخير لا يعد لباساً رسمياً ولكنه يتمتع بشعبية أكبر لأن المجتمع نفسه أصبح أقل رسمية، وهكذا نرى أن فن ما بعد الحداثة هو جزء من تيار أوسع من التغير التكنولوجي بل هناك دور للتغيرات السياسية والاجتماعية في الغرب التي قدمت العديد من المواقف، وتنوع فتح آفاق جديدة من التفكير، بل وأنواع جديدة من السلوك كان لدور الإنترنت التأثير الكامل على تغييرها على سبيل المثال. نحن نلاحظ تعليل هذا الفكر أو نظريات التعبير، التي اكتسحت السوق الفنية الغربية حديثاً، قد أثرت سريعاً في اتجاهات الفنانين المحليين أوالعرب، عموماً فقد تقتصر مناهج الجامعات في مجال الأنشطة الدراسية الفنية النقدية على موجة الفنون التي تم إنتاجها في الماضي، في إطار الحضارات المختلفة، وذلك لا يكفي فهناك دوافع أخرى للتعبير لا يمكن فصل الحياة الاجتماعية منها عن الفن، فالفنان والناقد والجمهور، هم أعضاء في المجتمع ذاته، فلابد أن تضمن هذه الدراسات القضايا الثقافية وتوعية الطالب بكافة الملامسات والظروف التاريخية والاجتماعية والحركات الأدبية، التي كان لها التأثير الأكبر في ظهور هذه التيارات المتعددة والمتغيرة في مجال الفنون البصرية، فلا مانع هنا أن يواكب الفنان العربي الحداثة أو ما بعدها، وذلك باستخدامه للتكنولوجيا والاكتشافات الحديثة، ولكن لا بد أن يكون على وعي ثقافي وفني أيضاً بأسباب ظهور هذه التيارات كي يتميز عن الآخرين بما يقدم من فنون مستمدة من بيئته وحضارته، حتى لا تضيع هويته وتصبح أعماله مجرد استنساخ للآخرين.