مع نهاية الأسبوع الأخير من أغسطس/آب حققت أسعار النفط أعلى مكاسب في يومين بشكل غير مسبوق منذ سنوات، لكن تلك المكاسب بالكاد عادلت الهبوط الذي شهدته أسعار الخام في أسبوع اضطراب الأسواق العالمية الذي بدأ بانهيار مؤشرات أسهم الصين والأسواق الآسيوية. وعاد خام برنت القياسي ليدور سعره عند حاجز 50 دولارا للبرميل (بعدما هبط إلى ما دون مستوى 45 دولارا للبرميل) وعاد الخام الأمريكي الخفيف ليدور حول مستوى 45 دولاراً للبرميل (بعدما هبط إلى ما دون 40 دولاراً للبرميل). واعتبر أغلب المحللين في سوق النفط أن هذا التصحيح قصير الأمد ،ولا يعني بشكل مؤكد عودة أسعار النفط للارتفاع بعد عام من الهبوط خسرت خلاله أكثر من النصف. توقف منحى الهبوط في أسعار النفط مع استقرار أسواق المال نسبيا، لكن السبب الرئيسي هو رهان المضاربين في عقود النفط الآجلة على أن مشاكل الصين والمخاوف من أزمة اقتصادية عالمية سيدفع بالاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي لعدم رفع سعر الفائدة للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن. ومعنى ذلك أن الدولار لن يرتفع سعره كثيرا ومن ثم لن تشهد أسعار النفط مزيدا من الضغط نحو الهبوط. لكن، وبغض النظر عن قرار الاحتياطي الفيدرالي بشأن الفائدة، يبقى العامل الأهم في تحديد أسعار النفط دون تغيير معادلة العرض والطلب. بل إن كل العوامل التي دفعت محللين ومؤسسات مالية لتوقع استقرار أسعار النفط على الانخفاض بقية العام وربما العام المقبل ما زالت قائمة. فسوق النفط مستمر في تخمة المعروض، ولم تتوقف دول أوبك والدول المنتجة الكبرى من خارج أوبك عن ضخ النفط بكميات كبيرة. يضاف إلى الإنتاج الذي يشهد زيادة مطردة أن المخزونات التجارية لدى كبار الدول المستهلكة للطاقة بلغت حدا غير مسبوق على سبيل المثال، وصل المخزون التجاري الأمريكي من النفط حدا لم يصله منذ 80 عاما. ثم إن الرهان على عدم قدرة شركات النفط والغاز الصخري على الاستمرار في الإنتاج مع هبوط الأسعار لم ينجح، وتمكنت الشركات من تطوير التكنولوجيا لتخفض كلفة الإنتاج بمعدلات كبيرة. بل على العكس، زاد إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى نحو 9.5 مليون برميل يوميا مقتربا من مستوى إنتاج أكبر منتج ومصدر في أوبك: السعودية. وفي الفترة الأخيرة، يضيف قطاع النفط الأمريكي منصات إنتاج جديدة بشكل أسبوعي حتى وصل عدد المنصات الآن ما يقارب 900. أما على صعيد الطلب، فحتى قبل انهيار الأسواق بسبب مخاوف تباطؤ الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي كان الطلب العالمي على النفط يتراجع مع تراجع الناتج الصناعي في دول رئيسية مستوردة للطاقة. وإذا كان الاقتصاد الأمريكي أظهر في الربع الثاني معدلات نمو كبيرة (تفوق 3 في المئة) فإن أكثر من نصف تلك النسبة ناجم عن ارتفاع المخزونات السلعية أكثر منه عن نشاط إنتاج واستهلاك كبير. ومعروف أن الولايات المتحدة والصين تستوردان ما يقارب نصف إنتاج أوبك (تستورد أمريكا نحو 7 ملايين برميل يوميا وتستورد الصين ما يصل إلى 6.5 مليون برميل يوميا)، وبالتالي فأي تراجع في الاقتصادين الرئيسيين في العالم خاصة في قطاع الصناعة فيهما يعني مزيدا من تراجع الطلب على النفط. وهذا التراجع كفيل بأن يجعل الزيادة الموسمية في الطلب خلال الشتاء غير مؤثرة في الأسعار. يبقى احتمال أن تلجأ أوبك إلى خفض سقف الإنتاج على أمل استقرار سوق النفط بما يحول دون مزيد من هبوط الأسعار. ورغم أن هذا الاحتمال ليس كبيرا مع استمرار موقف السعودية التي لا تريد أن تتحمل وحدها عبء ضبط السوق بينما المنتجون الآخرون يستفيدون وتخسر هي قدرا من نصيبها في السوق إلا أنه احتمال وارد. لكن، برأي كثير من المحللين فإن خفض سقف إنتاج أوبك (30 مليون برميل يوميا حاليا) بنحو مليون برميل يوميا قد لا يعني الكثير في ظل استمرار تراجع الطلب. أما خفض سقف الإنتاج بنحو مليوني برميل على الأقل فقد يحدث فرقا، على الأقل يحول دون هبوط الأسعار نحو مستوى الخطر بالنسبة للمنتجين وشركات الطاقة الكبرى على السواء وهو مستوى 40 دولارا للبرميل. وبعيدا عن مسألة الالتزام بحصص الإنتاج، وهي مشكلة مزمنة في أوبك، هناك عامل جديد يضعف تأثير أي تخفيض للإنتاج حتى ولو بمليوني برميل يوميا ألا وهو عودة إيران إلى الإنتاج والتصدير بمعدلات ما قبل فرض العقوبات الدولية عليها. هناك نقطة أخرى يرى البعض أنها قد تسهم في استقرار سوق النفط دون انهيار الأسعار أكثر وهي مشروعات الإنتاج المستقبلية للشركات الكبرى. فقد أوقفت الشركات الكبرى أو أجلت مشروعات إنتاج بكلفة تزيد عن 200 مليار دولار خلال العام الأخير مع هبوط الأسعار. وإذا استمرت هذه الوتيرة من توقف الاستثمار في قطاع النفط أو انخفاض معدلاته بشدة فإن مشروعات الإنتاج ستشهد انكماشا يقلل من تخمة المعروض في السوق. لكن التجارب السابقة لا تعطي مثل هذا العامل أهمية كبيرة في استقرار السوق.