×
محافظة المنطقة الشرقية

طواشي: بشرت بالفوز قبل أن أحل إحرامي

صورة الخبر

على معابر الهجرة يتدافعون. ملايين السوريين الذين شرّدتهم الحرب العدمية في بلادهم ودمّرت مدنهم وبلداتهم وأرضهم وموارد رزقهم، وأهانت عزتهم الوطنية، يلتمسون عطفاً وشفقة من بلدان الجيرة أو الأخوة العربية سابقاً أو بلدان الشتات الغربي، لكي يجدوا لأنفسهم ملاذاً من أتون حرب لم تعد حربهم، في وطن فقدوا حق الانتماء إليه والعيش فيه بفعل القوى المتصارعة على ترابه. تركوا جلّ ما يملكون وهاموا بحثاً عن موطئ قدم يلتقطون فيه أنفاسهم ويبكون موتاهم ويعيدون، ربما، ما تهدّم من حياتهم. الأردن، لبنان، تركيا، كلّ منها يحوي الآن أكثر من مليون لاجئ سوري يتكدسون في معسكرات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة: مستضعفين، مكروهين، مقيّدي العيش والحركة إلا في ما ندر. العراق ومصر والسودان وليبيا، تؤوي ألوفاً منهم وترفض غيرهم، تستغلّ ضعيفهم، بخاصة ضعيفتهم، كما تواترت القصص المرعبة عن زواج قسري واغتصابات وغيرها من صنوف الإذلال. والدول العربية الغنية في الخليج لا تستقبل منهم إلا كل كبير حظ: أذونات العمل شحّت، وشروط الإقامة تعقّدت، ولم يبقَ من متّسع إلا لأقل القليل، خصوصاً أصحاب المهارات والاختصاصات، أما الآخرون فلهم أن يحلموا بما لن يتاح لهم أبداً. أما الغرب، وأوروبا خصوصاً موئل أحلام الحرية والعيش الكريم، فدونه مصاعب جمة وأخطار تترى مآسيها على شاشات التلفزيون، زوارق محمّلة بأقصى من طاقتها بمئات اللاجئين الهاربين، تنقلب بهم في البحر الأبيض المتوسط ويغرق معظمهم، بخاصة ضعيفهم وضعيفتهم، ويفلت المهرّبون الذين استنزفوا منهم آخر مدخراتهم وتركوهم لمصير معروف في عرض البحر. يعلق اللاجئون الناجون في دوامة إجراءات قانونية غريبة لا يفهمونها. يمضون أيامهم في معسكرات شقاء واحتمال ترحيل. يحاولون الهرب منها ويموتون في المحاولة. ولا يصل منهم إلا النادر المحظوظ، الذي يبدأ رحلة تعب وتأقلم مع بيئات لا يعرفها ولا يتقن العوم فيها، ولكنها أفضل من الخيارات الأخرى: شقاء مخيمات اللجوء في بلاد الإخاء العربي، أو العيش تحت رحمة براميل بشار المتفجرة أو سكاكين «داعش» المدماة. هذه التغريبة المأسوية الكبرى أصبح لها وجه واسم أخيراً: معاذ البلخي، الشاب السوري ابن الاثنَي والعشرين ربيعاً الذي قضى غرقاً في تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٤، وهو يحاول السباحة عبر بحر المانش من مخيم شقاء في كاليه الفرنسية إلى بريطانيا، التي أضحت حلماً للعديد من اللاجئين المبعثرين في أوروبا، ليُسر قوانين الهجرة والتوطن فيها. فُقد معاذ لمدة ثمانية أشهر، ظنّ أهله اللاجئون إلى الأردن خلالها أنه مسجون في بلد أوروبي ما لمحاولته التسلّل إلى بريطانيا، ولكنه للأسف لم يصل إلى هذا البلد/ الحلم الذي كان يراه بعينه المجردة من كاليه في أيام الصحوة، بل مات وحيداً يسبح في عرض القنال الإنكليزي في بذلة غوص رقيقة لا تصلح لجو الخريف العاتي، وقد انتشلت جثته من على شواطئ جزيرة تيكسيل في هولندا، بعدما جرفتها تيارات بحر الشمال العنيفة. كان يمكن لقصة معاذ ألا ترى النور أبداً لولا مثابرة الصحافي النروجي أندريس فيللبرغ، الذي نشر تقريراً مطولاً عن جثتين داخل بذلتي غوص متماثلتين، عُثر على واحدة منهما على شاطئ ليستا في أقصى جنوب النروج ولم يمكن التعرف الى صاحبها، والأخرى جثة معاذ التي وُجدت في تيكسيل بهولندا. وقد نشر فيللبرغ تقريره في صحيفة «دايبلات» النروجية في 15 حزيران (يونيو) الفائت، تحت عنوان «صاحب بذلة الغوص»، ويمكن مراجعتها على الرابط التالي http://www.dagbladet.no/spesial/vatdraktmysteriet/eng/?Src=longreads ثم نشر يسري فودة ترجمة لفصلها الثالث المتضمِّن قصة معاذ البلخي في جريدة «المصري اليوم» المصرية بتاريخ ٢٢ حزيران، وقدّمت لها الجريدة على موقعها بعبارات غير مناسبة البتة، إذ إنها تتوجّه إلى القارئ بالتالي: «إن كان لديك شيء واحد تقرأه اليوم فاقرأ هذا التحقيق، شرط أن تقرأه حتى آخر سطر... اقرأه... واستفد... واستمتع»! http://www.almasryalyoum.com/news/details/759540 فهل في متابعة تغريبة السوريين هذه متعة؟ هذه الهجرة التي فاقت كل هجرات حروب الجيلين الماضيين في العالم كله، واقتربت في ضخامتها من هجرات الحرب العالمية الثانية أو الهجرات الهندية - الباكستانية عقب تقسيم الهند عام ١٩٤٧، مزقت سورية الصغيرة نسبياً بأن حرمتها حوالى ربع سكانها الذين ذهبوا في هجرة خارجية، وثلثهم الآخر الذين تفرقوا في هجرات داخلية لا نسمع عن آلامها الكثير. ومع أن تدمير سورية خلال سنوات الحرب العبثية هذه هائل، والموت والإصابات مريعة، إلا أن للهجرة الواسعة والمستمرة تأثيرات مدمرة في البلد واقتصاده وتوازنه السكاني وأمنه، وستعاني سورية من آثارها لجيلين وأكثر حتى لو وضعت الحرب أوزارها، وليس لهذه النهاية مؤشر حتى الآن. عندما غيّر العثمانيون قوانين التجنيد الإلزامي في بداية الحرب العالمية الأولى وأرسلوا ألوف شباب الأقليات، بخاصة المسيحية منها، في لبنان وسورية وفلسطين، إلى معارك بائسة في أقصى الشمال من شبه جزيرة القرم وغيرها من ولايات الدولة الآيلة إلى السقوط، تسببوا بهجرة غير مسبوقة في الساحل. غادر ألوف الشباب، والصبايا أحياناً، قراهم ومدنهم في رحلات طويلة نحو العالم الجديد، هرباً من التجنيد والمجاعة الناتجة من هجران الرجال حقولهم. بدأوا هناك حيوات جديدة. بعضهم صعد درجات في السلم الاجتماعي، وبعضهم عاد إلى قراه وابتنى لنفسه بيتاً واتخذ زوجة. لكن التغير الديموغرافي الهائل لم يُستعد بعد ذلك، وما زال ساسة لبنان حتى اليوم يتباهون بأن عدد اللبنانيين (أو أحفادهم) في الخارج أكثر من عدد اللبنانيين في الداخل. هذه الحقيقة وحدها كافية لكي نتفكّر في ما كانت ستكون عليه حال لبنان لولا هذا «السفربرلك». فما بالك بهجرة سببها حرب أهلية مزّقت الوطن السوري ودمرت ربع مبانيه وثلث اقتصاده وكل لحمته الوطنية وما زالت مستعرة؟ وما بالك بالمآسي والآلام الناجمة عن هذه التغريبة الطويلة والمأسوية التي لن نرى نتائجها إلا بعد أجيال عدة؟ تُرى، هل ينام الديكتاتور في قصره في المهاجرين قريراً؟ * كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.