تمر البلدان والمجتمعات العربية بمرحلة دقيقة وحاسمة، وتواجه تحديات مصيرية هي الأشد في تاريخها الحديث.. فالأزمة بنيوية ومركبة وشاملة وممتدة في أبعادها القومية والوطنية، وفي تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي تنعكس في احتدام التناقضات والصراعات والمواجهات الأفقية (بين مكونات النظام العربي) والعمودية (داخل كل مجتمع عربي على حدة). أخطر تجليات الأزمة الوطنية والقومية هو صعود وتصدر الهويات (الدينية والمذهبية والمناطقية والقبلية والإثنية) الفرعية والتقليدية للمشهد العام، وذلك على حساب الهوية الوطنية/ المجتمعية المشترك. علينا هنا الوقوف عند حقيقة كون الهوية الوطنية لأي شعب، ليس معطى ثابتا ومنجزا ونهائيا. الهوية تتشكل في مجرى التطور التاريخي ــ الموضوعي، ومن خلال نضج أو إنضاج المقومات والمقدمات السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية/ الثقافية، وقبل كل شيء صوغ وتحقيق معادلة المصالح المشتركة والمتداخلة والمتكافئة (ولو بشكل نسبي) بين الهويات الخاصة (الفرعية) لمكونات أي جماعة بشرية. تلك بعض المحددات الرئيسة لتشكيل الهوية الوطنية الراسخة والدائمة، والمتجددة في مراحل الأزمات والانعطافات والاستحقاقات المفصلية التي تواجهها. وهي في كل ذلك (الهوية) تختلف عن تلك الروابط والصلات التي شهدتها الإمبراطوريات والدول القديمة التي غلب عليها طابع الإلحاق والضم والتبعية القسرية للأطراف من قبل المركز. بطبيعة الحال هناك اختلافات وتباينات بين التكوينات والتجمعات الإنسانية فيما بينها وفي داخلها، وفي سياقات تطورها التاريخي، وطبيعة خصائصها الاجتماعية، ومستوى تجانسها الإثني/ الديني/ المذهبي/ اللغوي. وفي الواقع فإن مفهوم الهوية الوطنية بالمعنى السائد اليوم، هو من المفاهيم الغربية «المستوردة» التي ارتبطت بالسياق التاريخي لتطور مفهوم الدولة الحديثة في أوروبا، والذي واكب ظهور، وتشكل، ثم صعود البرجوازية (سكان المدن) في قلب أحشاء المجتمعات الإقطاعية في أوروبا، بدءا من عصر النهضة، والإصلاح الديني، ومرورا بعصر التنوير أو الأنوار، الثورة العلمية/ الصناعية، وانتهاء بالثورات البرجوازية، التي دكت دعائم العلاقات الإقطاعية وأنظمة الحكم المطلق في أوروبا، التي باتت بتكوينها الاستبدادي، وبعلاقاتها الإنتاجية والاجتماعية العتيقة والبالية معيقة ومعرقلة للتطور، ما مهد الطريق لانبثاق مفاهيم جديدة حديثة. في سيرورة هذه العملية التاريخية الطويلة نسبيا (ثلاثة قرون) ترسخ مفهوم الدولة ــ الأمة، الدستور، المواطنة، والتداول السلمي للسلطة. وذلك على أرضية مؤسسات المجتمع المدني، وهي تشكيلات، يغلب عليها كونها جماعات مدنية تطوعية مستقلة، تمثل بمجموعها المجتمع المدني، كمعادل موضوعي إزاء المجتمع السياسي (الدولة).