×
محافظة المنطقة الشرقية

التدريب التقني: تأجيل التدريب بجميع الكليات بنجران وظهران الجنوب للعام القادم

صورة الخبر

صدرت عن دار راية للنشر في حيفا، خيراً مجموعة قصصية بعنوان «المَحْو» للكاتب الفلسطيني رياض بيدس، وهو قاص وروائي صدرت له تسع مجموعات قصصية وروايتان. تتألف المجموعة من 17 قصة قصيرة، والمَحْو واحدة منها، واختير اسمها عنواناً للكتاب، فهي تتحدث عن محاولة محو الذاكرة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، خصوصا داخل فلسطين، على يد إسرائيل والحركة الصهيونية ونتائج هذه المحاولة. فبيدس استعار في هذه القصة اسم «سفسارشك»على نحو أعاد إلى الأذهان «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل» لإميل حبيبي، خاصة وأن سفسارشك، في كلا الحالتين عند بيدس وحبيبي، رجل سلطة مكلف بشؤون الفلسطينيين. وأشار بيدس إلى أنه استعار الإسم من المتشائل، لكنه جعل سفسارشك في «المَحْو» مكلفاً بمهمة مستحيلة وهي محو ذاكرة ضحاياه. في بداية قصة «المَحْو» يستشهد بيدس بمقاطع من كتاب الفيلسوف نيتشة «هكذا تكلم زرادشت» من ضمنها المقطع التالي: «لكن لي كلمة هنا أريد أن أقولها لأعدائي: ماذا تساوي كل جرائم القتل أمام ما فعلتموه بي»، أجل ما فعله الإسرائيليون بالفلسطينيين أفظع من جرائم القتل بكثير. فسفسارشك «المحو» رجل سلطة لديه تابعان لا فرق بينهما مكلفان بتعذيب أشخاص أحدهم اسمه 123 حاول التابعان «تغيير ذاكرته وتدميرها»، ومن ثم حمْله على الرحيل، لكن التعذيب لم يُحقق الغاية المنشودة، لا بل جاءت النتيجة عكسية، فالضحية احتفظ بذاكرته وخرج من التعذيب أكثر عداء لجلاديه. فقصة «المحو» تحمل رسالة عميقة بالغة الخطورة، خاصة لأرباب السلطة في إسرائيل، الذين لا يكفون عن محاولة تغيير ذاكرة الشعب الفلسطيني وتدميرها. مفاد هذه الرسالة أن سياسة إسرائيل في محو ذاكرة الفلسطينيين ستنقلب على أصحابها في النهاية وتجلب عليهم ما هو أمرّ وأدهى. يتزامن صدور مجموعة «المّحو» مع الاهتمام المتصاعد في العالم العربي بالفلسطينيين في إسرائيل، واقتحام هذه المجموعة من أبناء الشعب الفلسطيني، التي نسيها العرب لعقود طويلة، أبواب العالم العربي المقفلة في وجوههم عنوة وبأشكال مختلفة، فتارة يقتحم مغنون وموسيقيون منهم مسابقات الغناء العربية في بيروت ودبي والقاهرة وغيرها من العواصم العربية أو يقتحم ممثلون وفرق مسرحية منهم مسارح تونس والمغرب والأردن، وتارة أخرى يقتحم نشطاء سياسيون منهم الساحة العربية ويتدخلون في صراعاتها الداخلية من خلال قنوات تلفزيونية عربية تحظى بعدد كبير من المشاهدين، وتارة ثالثة مشاركة البعض منهم في العمليات المسلحة لإسقاط هذا النظام من أنظمة الحكم العربية أو ذاك، مثلما هو حاصل مع المقاتلين منهم المنضوين تحت لواء الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش). مجموعة بيدس القصصية الجديدة تعطي القارئ العربي صورة حية عن الفلسطينيين الذين نجحوا في البقاء بوطنهم عام 1948 بتركيزها على خصوصية الشخصية الوطنية لهؤلاء الفلسطينيين. رسم بيدس 17 لوحة أدبية تعكس في غالبيتها جوانب عديدة من وضع هؤلاء الفلسطينيين وتناقضاتهم. ورغم قصرها، أعطت هذه القصص ما يشبه الصورة البانورامية للفلسطيني الذي ظل متشبثاً بوطنه منذ نكبة عام 1948. فرغم تنوع هذه اللوحات وخطوطها وتضاريسها ومواقعها الجغرافية، فقصص بيدس عبّرت عن طبيعة هذا الفلسطيني الذي يعتز بأصله ويتمسك بذاكرته وأرضه وحقوقه أينما حلّ، سواء كان في فلسطين أو في النمسا، التي يتضح أن بيدس عاش فيها فترة من الزمن. كما عبّرت المجموعه عن نفسية الفلسطيني داخل إسرائيل وعن حمله لهمومه وهموم شعبه أينما اتجه، حتى وهو مسافر داخل حافلة ركاب نمساوية في فيينا، كما روى في قصة «ثلج»، إذ ذكـّرته تلك الحافلة بحافلات الركاب الإسرائيلية والطريقة المزعجة التي ينظر بها المسافرون الإسرائيليون إليه كفلسطيني وهو مسافر فيها. فروى على سبيل المثال أنه فيما كان مسافراً في الحافلة النمساوية: «فجأة تنط إلى رأسي فكرة السفر في بلادنا والتنقل فيها والرعب الذي يتملكني فأنزعج جداً وأرى إلى نفسي متكدراً، أهدّئ نفسي قائلاً إنه ليس باصاً إسرائيلياً حيث تكون فيه عرضة لنظرات جارحة تدفع بك إلى خارج الباص أو تشعرك بأنك ماذا فاعل بيننا في هذا الباص، هنا أخف وأهون بكثير والفرق بين المكانين كبير جداً، على الأقل هذا الباص أشعر بأني مسافر بكامل الحقوق ككل المسافرين الآخرين فيه لا فرق بيننا، أليس هذا امتيازاً عظيماً، ثم لماذا تقتحم سيرة البلاد المقرفة هذا الباص وتلاحقني حتى هنا». وبلغ تركيز بيدس على الشخصية الفلسطينية داخل إسرائيل ذروته في قطعة «احذروا» التي هي، كما يقول الكاتب، عبارة عن «مجموعة تحذيرات موجهة للسائح الذكي القادم إلى إسرائيل، لأن عرب إسرائيل يشكلون خطراً استراتيجياً»، أي أنها تحذيرات إسرائيلية، وتضمّنت قائمة منها امتدت على طول خمس صفحات استهلها بيدس بـ«إحذروا عرب إسرائيل لأنهم يزدادون تطرفاً.. واحذروا عرب إسرائيل لأنهم يزدادون عدداً»، مروراً بتحذيرات من أنهم يزدادون ثقافة وتطوراً ووعياً وفقراً، وأخرى من أنهم يحبون الأعراس والرقص ويعرفون اللغة العبرية ويحلمون أحياناً، ثم «احذروا عرب إسرائيل، لأننا مع الوقت اكتشفنا أنهم بشر مثلنا لولا أنهم عرب فلسطينيون»، وفي الختام «احذروا عرب إسرائيل، لأنهم كالشوكة في الخاصرة». ولفت النظر في مجموعة بيدس الجديدة استخدامه غير العادي لعدد كبير من الكلمات والتعابير العامية الفلسطينية التي قد تكون مستخدمة في المجتمعات العربية الأخرى والتي جاء استخدامها موفقاً يجعل القارئ العربي من أي قطر كان يفهم هذه التعابير ويستوعبها. ويمكن القول أن استخدام العامية لدى بيدس جاء تعبيراً إضافياً عن تمسكه بتراثه الفلسطيني. لم يكن استخدام بيدس للعامية مبتذلاً أو عشوائياً، بل فعل ذلك بحذق شديد ليمنح القارئ متعة إضافية ويشدّه إلى الفكرة. فالمسألة لديه لم تتعلق بتعبير عامي واحد أو اثنين أو بضعة منها، بل امتدت إلى كل المجموعة القصصية من أولها إلى آخرها وجعلتْ من الموضوع ظاهرة ملفتة للنظر، فإدخال مثل هذه التعابير على نص أدبي، يجعله منسجماً مع النص. فمثلاً استخدم بيدس التعابير التالية: قبّعت معه ص60، ولماذا ُأكبّر الموضوع ص61، أنعف عليهم نظراتي ص84، ألا أطحش معها طحشاً ص88، الذين قلعطوا حياتنا ص94، وكعشوني ص105، وأتروحن ص118، قطعة مِحِرزة ص151، ولو طلع بيدي ص 173، ولماذا حططنا حطاطه ص185، ويحطون ما فوقهم وتحتهم ص 194، ويصرخون من قحف رؤوسهم، وغيرها استخدمت كلها في محلها من دون تصنُّع. وما يلفت النظر في مجموعة «المَحْو» أن بيدس، الذي بدأ حياته الأدبية كاتب قصة قصيرة وكانت لديه تجربتان روائيتان لاحقاً، لم يحسم أمره في مسألة اختيار اللون أو الشكل الأدبي الذي يختاره للتعبير عن مكنونات قلبه وذهنه. إذ يبدو واضحاً في الكثير من القصص الـ17 التي تضمّنتها المجموعة أنها احتوت على نَفَس روائي لا علاقة له بالقصة القصيرة. فمجموعة «المَحْو» القصصية دليل على أن التجربة الفنية والأدبية والحياتية اعتملت لدى بيدس، فأصبح قادراً على تقديم عمل روائي ناضج، بل حتى عمل مسرحي. فعلى سبيل المثال قصة «حنظلة في البركة» في المجموعة هي عبارة عن فصل في مسرحية بكل ما تعنيه كتابة الأعمال المسرحية من معنى، وكذلك الحال في قصة «داو بانغ وكي يو» التي هي الأخرى عبارة عن مشهد في مسرحية تحكي عن هموم الفقراء الفلسطينيين في القدس. أما الحوارات في كثير من هذه القصص فهي أشبه بفصول في رواية أو روايات ما. فالكاتب يكشف عن قدرة على السرد وإدارة الحوار، ورغم الوصول إلى نهاية القصة يشعر القارئ أن الحوار سيستمر في الفصل التالي، مما يشوش على المتعة التي وفرّها النص للقارئ ويصيبه بنوع من خيبة الأمل لدى اكتشافه أن الفصل الجديد مجرد قصة أخرى وليس استمراراً لما سبقه. تجدر الإشارة إلى صعوبة تصنيف بعض محتويات مجموعة «المَحْو» على أنها قصصاً قصيرة، فهي في الغالب أشبه ما تكون صوراً قلمية أو أعمدة كتبها أدباء في جريدة أو مجلة أدبية، فهي غنية بمحتواها والأفكار التي احتوتها، لكنها لا تشكل بأي حال من الأحوال قصة قصيرة ولا تنطبق عليها شروط هذا الفن الأدبي الجميل. فهذا كان واضحاً في «نذهب إلى البحر» و«عن التشذيب والتهذيب والتعليب» وحتى في «إحذروا». من الواضح أن الكاتب اختار مجموعة من كتاباته القصيرة التي انتجها في فترات زمنية متباعدة نسبياً، فقصة «وجبة من حياة بلدوزر إسرائيلي متكدر» تحمل تاريخ 3 نوفمبر 1997، وقصة «المَحْو» تحمل تاريخ 27 يونيو 2011، وبين هذين التاريخين هناك قصص كتبها بيدس في عام 2001 وأخرى في عامي 2006 و2007، فجمعها ودفع بها إلى المطبعة لتخرج على شكل كتاب أطلق عليه اسم «المَحْو مجموعة قصصية».