كلما أخذتني الحياة بزحامها وفوضاها وأحلامها التي لا حدَّ لها.. أضع نفسي في هذا المشهد المتخيّل: أجلس على كرسي من قلق، أنظر في وجه الطبيب الذي يُقلّب أوراق التحاليل التي أجريتها هذا الصباح في عيادته، أتابع نظرته الباردة وهو يتفحّص صور الأشعة أمامه.. بعد أيام سأكون في الكويت لحضور الملتقى الإعلامي العربي. بعدها بيومين سأكون في الدمام لإنجاز الحلقة الجديدة من سلسلة (ضوء) برنامجي في اليوتيوب. بعد أسبوع سأكون في الدوحة لإنجاز بعض الأعمال. آخر الشهر سأكون في دبي لحضور جائزة الصحافة العربية. وماذا بعد؟! متى سينتهي هذا الركض؟! أعود إلى مشهد الطبيب الذي يُقلّب نتائج التحاليل؛ ليكتشف أسباب الآلام التي أصابتني، ولم تنفع معها المسكنات والمضادات وبقية الأدوية... هي لحظات كأنها عُمرٌ! لا أقوى على السؤال.. أخاف من الإجابة! ما الذي يراه في هذه الأوراق؟ هل أنا مُصاب بمرض خطير؟! حققت الكثير من أحلامي، وعشت الحياة بشكل رائع.. ولم أشبع منها. ما أنا عليه الآن كان أحلامًا كبيرة وصعبة بالنسبة لي قبل سنوات قليلة: البيت الذي أملكه، زوجتي الرائعة، أولادي الأذكياء الأصحاء، الأصدقاء، دخلي الجيّد، الكتابة، الشهرة، الاحترام الذي يمنحه الناس لي... ولكن كل هذه الأشياء التي بين يديّ لا تصل إلى عُشر الأشياء التي أحلم بالقبض عليها. ما يزال هنالك الكثير من الأحلام التي تحتاج إلى المزيد من الركض والجهد والقلق. وماذا بعد؟! متى أشعر بالشبع والارتواء؟! متى ينتهي هذا الركض؟! أعود إلى الكرسيّ القلق، ونظرات الطبيب الباردة/ المحايدة.. يلتفت إليّ بوجه متجهم، ينزع نظارته.. ولا ينزع النظرة المحايدة، ويخبرني بالخبر الصاعق! يا الله! ليت الحياة تمنحني الفرصة لأعيد رسم علاقتي مع الأشياء. سأتوقف عن هذا الركض تحت الأضواء الساطعة الباهرة لأجلس بطمأنينة تحت ضوء خافت مع من أحب. سأجلس أكثر بجانب والدتي، وأقبّل قدميها ويديها، وأستمع لأحاديثها العادية البسيطة الأهم من كل أحداث العالم. سأعيد علاقتي مع هذا الإنسان الذي اختلفت معه على أشياء تافهة جدًّا.. وصارت بيني وبينه قطيعة وكُرْه. سأصغي أكثر لموسيقى هذا الكون. سأهرب من هذا الضجيج، وأهجر كل تلك الثرثرة التي تملأ الفضاء.. وتدّعي معرفتها بالحياة، لألجأ إلى الكلمات الهادئة البسيطة التي تدل طريق القلب وتصله بسهولة وسلاسة. سأنتبه للحظة الأولى التي قالت فيها طفلتي الصغيرة: (بابا). أشعر أن أولادي كبروا بسرعة ولم أنتبه لتفاصيل أعمارهم، وتجاربهم الأولى، وأسماء فرقهم المفضلة، والأشياء التي يحبونها وينحازون إليها. الحياة تأخذنا من الحياة! الأشياء التي نظن أنها مهمّة تأخذنا من الأشياء الأكثر أهمية. ننشغل بالأشياء البعيدة.. وننسى الأشياء الجميلة التي بقربنا وتستحق اهتمامنا. قلت لكم إن مشهد الطبيب مُتخيّل، ولكنه من الممكن أن يحدث في أي لحظة ولأي واحد منا. ينتهي الركض فجأة! الأغنية الشهيرة تقول لكم: (الحياة حلوة.. بس نفهمها). نعم.. الحياة حلوة ومذهلة ورائعة (وليس من الضروري أن نفهمها!) ولكن يجب أن نعيشها بشكل رائع.. يليق بها وبالذين نحبهم. alrotayyan@gmail.com