لم ينج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ولا جبهة النصرة من اللعنة التاريخية التي تصيب من يحكم جناحي الوطن العربي في هذين البلدين من خلافات رغم المرجعية الأيديولوجية الواحدة. فالخلاف بين حكام البلدين لا يزال مستمرا منذ زمن الأمويين والعباسيين، وانتقل إلى جناحي حزب البعث اللذين حكما البلدين في نفس الفترة، واليوم ينفجر الصراع بين "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية)، وجبهة "النصرة" رغم أنهما ينهلان من نبع فكري واحد يعود إلى السلفية الجهادية العالمية (القاعدة). وما أشبه اليوم بالبارحة، فالخلاف التاريخي وفي كل الحقب لا يزال رهين الصراع على السلطة، وهي النتيجة التي يصل إليها مؤلفا كتاب "تنظيم الدولة الإسلامية.. الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية"، الباحث حسن أبو هنية والدكتور محمد أبو رمان في كتابهما الجديد. -العنوان: تنظيم الدولة الإسلامية.. الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية -المؤلفان: حسن أبو هنية ومحمد أبو رمان -الناشر: فريدريش إيبوت/ مكتب عمّان -عدد الصفحات: 272 -الطبعة: الأولى 2015 يقع الكتاب في 272 صفحة وهو مليء بالمعلومات الغزيرة التي لا تتوقف عند العرض التاريخي لجذور تنظيم الدولة وجبهة النصرة ومسيرتهما، بل يدرس الشروط الذاتية والموضوعية التي أنتجت التنظيم في العراق ووسائله العنفية التي لا تنفصل -بحسب المؤلفين-عن المحيط الذي عانى من الحروب لعقود طويلة، وغرق في العنف ومزقته الصراعات. وقد تحولت هذه الدوامة إلى أزمة للسنة تمثلت في الصراع على الجهادية العالمية التي "نمذجت" العنف. يركز الكتاب بشكل خاص على جذور الخلافات بين "تنظيم الدولة" و"جبهة النصرة" والمعارك التي قامت بينهما، وهي محاولة من الباحثين لفهم التنظيم ومرجعياته الفكرية، وتنظيرات قادته بعيدا عن التفسيرات الاستشراقية في فهم الظاهرة، والإجابة عن عدد من الأسئلة التي تتصل بالإشكالات والتنظيم ومعالم فكره وما يرافقها من غموض. يتناول المؤلفان هذه القضايا عبر ستة فصول في الكتاب الذي يعد وثيقة مهمة لدراسة صعود السلفية العالمية وتفرعاتها، وطبيعة التنظيم وهيكله وبرامجه وتمويله وعلاقاته وصعوده السريع و"الهوس الإعلامي" بمتابعة أخباره. ويوضح الباحثان في الفصل الأول جذور "الدولة الإسلامية" في مساراتها وتحولاتها منذ تأسيسها على يد الأب الروحي لها أحمد فضيل الخلايلة المعروف بـ"أبي مصعب الزرقاوي" نسبة لمدينة الزرقاء الأردنية التي ولد فيها، واحتلال العراق (2003) ثم اندماج تنظيم جماعة التوحيد والجهاد مع شبكة القاعدة المركزية ومؤسسها أسامة بن لادن وما شاب ذلك من خلافات. ويتوقف الباحثان عند خطل استنتاجات بعض الدارسين والمثقفين الذين أضفوا على تنظيم "الدولة" هالة من الغموض لافتين إلى أن قراءة هؤلاء لا تخرج عن عقلية المؤامرة التي ترى ارتباط ظهور الدولة الإسلامية بـ"مؤامرة أميركية" و"غزو خارجي"، وهو أمر ليس صحيحا، بل هو "حالة من الإنكار المقصود للسياق السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي أسس للانهيارات الكبيرة في البنية الفكرية والسلوكية العربية" ص15. وبين الباحثان ارتباط التنظيم بالتيار السلفي الجهادي العالمي، وتنظيم القاعدة المركزي إلا أن الانقلاب عليهما جاء بدافع المعطيات التي جرت على الأرض بعد احتلال العراق، ومن العوامل التي ساهمت في صعود تنظيم الدولة الإسلامية "السياسات الأميركية في العراق، والتمدد الإيراني عبر الهيمنة على القوى السياسية الشيعية" ص22. " يتوقف الباحثان عند خطل استنتاجات بعض الدارسين الذين أضفوا على تنظيم الدولة هالة من الغموض لافتين إلى أن قراءة هؤلاء لا تخرج عن عقلية المؤامرة التي ترى ارتباط ظهور الدولة الإسلامية بـ"مؤامرة أميركية" و"غزو خارجي" " في الفصل الثاني يناقش المؤلفان جذور نشوء جبهة النصرة، التي شكل لها التنظيم العراقي حاضنة، لكن "النصرة" لم تنج من الخلافات التي تأسست بالأصل على رؤية الزرقاوي لبعض القضايا الفقهية والأولويات، وتحديدا ما يتعلق بقتال الشيعة وتكفيرهم. وهو ما انعكس على التباس هوية جبهة النصرة، التي "توافرت على سلطتين مرجعيتين ومنهجين مختلفين، أحدهما ينتمي لنهج تنظيم القاعدة المركزي السياسي وتكيفاته الأيديولوجية عقب ثورات الربيع العربي التي تستند إلى حروب "الأنصار" وثانيهما نهج الفرع العراقي الهوياتي (من هوية) الذي يتمتع بنوع من الاستقلالية النسبية ويتمسك بموضوع حروب الهوية" ص81. و استمر الخلاف حتى بعد رحيل "الزرقاوي" ورحيل ابن لادن وتحول إلى معارك إعلامية وصراع دموي عام 2014. ويفسر المؤلفان هذا الخلاف بأن زعيم النصرة أبا محمد الجولاني يستند في الرأي إلى "مرجعيات السلفية الحركية التي نشأت من رحم جماعة الإخوان المسلمين" ص94، وهي تقوم على الفكر الإصلاحي، وليس التغييرات الحادة. وفي الفصل الثالث يناقش الكاتبان الظروف السياسية والتحولات اللوجستية والشروط التي توفرت لـ"إعلان الخلافة"، وخصوصا بعيد انسحاب القوات الأميركية من العراق، الذي تزامن مع الاحتجاجات العربية "الربيع العربي" عام 2010، ومقتل زعيم تنظيم القاعدة المركزي 2011، وترافق مع ذلك اتساع مشاعر الغضب من قبل السنة نتيجة الإقصاء والتهميش، وفشل دمج "الصحوات " التي تأسست لمواجهة "القاعدة، فقرر التنظيم إجراء مراجعة لبرامجه السياسية والعسكرية والأمنية، وتبنى خطة "هدم الأسوار" بمعنى فتح الحدود، وإعلان دولة العراق الإسلامية 2012. ويشير المؤلفان إلى عاملين (خارجي وداخلي) ساهما في تدعيم تنظيم الدولة واتساع نفوذه في العراق، وهما: "تدشين الثورات المضادة وسياسات إعادة إنتاج السلطوية في العالم العربي التي تجسدت بالانقلاب على نتائج الديمقراطية.. والثاني سياسات إيران التي كانت تسعى إلى تدعيم نفوذها في العراق" ص122. والانتصارات التي تحققت على الأرض لتنظيم العراق الذي أعلن في 29 يونيو/حزيران 2014 قيام الخلافة، وتنصيب "أبي بكر البغدادي" إبراهيم عواد البدري خليفة للمسلمين. وفي الفصل الرابع يعاين المؤلفان السجالات التي دارت بين تنظيم القاعدة المركزي وجبهة النصرة من جهة، وتنظيم الدولة الإسلامية من جهة ثانية، وهو ما يعود إلى المرجعيات عند كل جهة، ومع أنه تم احتواء الخلافات فإنها بقيت قابلة للانفجار، وتدحرجت السجالات والخلافات إلى أن وصلت حد الاقتتال بين "النصرة" و"تنظيم الدولة"، وخصوصا بعد رفض أبي محمد الجولاني طلب البغدادي حل جبهة النصرة والانضواء تحت راية الدولة، فقام البغدادي بحل جبهة النصرة، ومن هنا تجاوزت الخلافات محاولات رأب الصدع إلى حدوث الانقسام في السلفية العالمية على امتداد العالم. "وأصبحنا أمام تيارين متباينين بل ومختلفين ومتصارعين، يكفر ويخون كل منهما الآخر". ص160. " ما زال تنظيم الدولة يحافظ على حاضنته السنية في ظل بقاء المشكلة السورية والتحالفات المصلحية والبراغماتية التي تعقدها أميركا مع الحكومة العراقية، وفي ظل الانتكاسات التي جرت عقب الثورات "الربيعية" وبقاء الغطرسة الصهيونية، والتمدد الإيراني والفوضى العارمة، وفساد الحكومات والفقر " وفي الفصل الخامس يتتبع الكاتبان تخندق كل طرف بآراء "الآباء المؤسسين" لأيديولوجيا السلفية الجهادية من خلال أدبياتهم وآرائهم الفقهية وأبرز منظري "الدولة" -ومنهم: أبو عبد الله المهاجر الذي عبر عن آرائه في كتاب "إدارة التوحش"، وأبو بكر ناجي في كتاب "فقه الدماء"- التي شكلت إيديولوجيا "داعش" العنفية، والتي "أصبحت تشكل دليلا ومنهاجا لحركة تنظيم الدولة الإسلامية وسلوكه العنيف" ص184. في الفصل السادس يعرض المؤلفان لتطور البناء الهيكلي لتنظيم الدولة الإسلامية ومكوناتها من جماعة التوحيد والجهاد، والقاعدة في بلاد الرافدين، وبناء الدولة (الخلافة) وقياداتها الحالية. ويخلص المؤلفان في خاتمة الكتاب "الشامل" الذي يتصف بـ"المسح التوثيقي التحليلي" إلى قراءة مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية في ظل حرب التحالف الدولي والإقليمي، والظروف الإقليمية، متوقفين عند مكونات قوات التحالف ومآربهم وجديتهم في القضاء على التنظيم، وتداخل التحالفات والشكوك في مقدرة التحالف على حسم المعركة دون الحرب البرية، وفي الوقت نفسه تمكن تنظيم الدولة من امتصاص آثار الضربات الجوية وتقليل فعاليتها، وحافظ على صلابته، وتطوير أدواته العسكرية والإعلامية، ومقدرته على المناورة والتخفي. والأهم من ذلك أن تنظيم الدولة لا يزال يحافظ على حاضنته السنية في ظل بقاء "المشكلة السورية" و"التحالفات المصلحية والبراغماتية" التي تعقدها الولايات المتحدة الأميركية مع "الحكومة العراقية"، وفي ظل الانتكاسات التي جرت عقب الثورات "الربيعية" وفي ظل بقاء الغطرسة الصهيونية، والتمدد الإيراني والفوضى العارمة، وفساد الحكومات والفقر...إلخ. هذه الأسباب والشروط في مجملها كانت وراء الظاهرة العنفية للتنظيم، وهي جزء من المشهد العربي العام، "فعنف التنظيم وسلوكه الحاد ليس نشازا، بل هو جزء من (العنف البنيوي) الراهن الذي يجتاح العديد من الدول والمجتمعات العربية" ص229 ويخلص المؤلفان إلى أن القضاء على التنظيم عسكريا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي، ولن ينقذ الدولة القُطرية "المأزومة" أصلا، لافتين إلى أننا "أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة دون خلق آفاق سلمية بديلة.. وهي التي كان يمكن أن توفرها الثورات الديمقراطية العربية". ويعبر المؤلفان بالقول إن "الطريق أصبحت متعرجة ومعقدة، مما يجعل سيناريو الفوضى والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي على أسس بدائية هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور" ص231، وخصوصا في ظل غياب البديل الديمقراطي الوطني التوافقي.