(هذه ترجمة معدلة تعديلاً طفيفاً للمحاضرة التي ألقيت الأسبوع الماضي في جامعة أتاوا الكندية بدعوة من الملحقية الثقافية في سفارة المملكة في كندا وكرسي الدراسات العربية في الجامعة، وكانت أمام عدد من أساتذة وعمداء وطلاب الجامعة إلى جانب عدد من الدبلوماسيين والمبتعثين السعوديين). في صيف عام من أواخر السبعينيات كنت عائداً إلى المملكة العربية السعودية، فخوراً بعودتي الأولى لزيارة الأهل والوطن من بعثتي في ولاية إنديانا الأمريكية حيث كنت أتابع دراستي للأدب الإنجليزي في جامعة بردو. "ماذا تدرس في أمريكا؟" سألني رجل مسن في أحد اللقاءات الاجتماعية أثناء الزيارة. قلت له: "الأدب الإنجليزي"، وكنت أجيب بتردد، قلقاً من أن الإجابة لن تكون واضحة أو مقنعة. وكنت محقاً. "لكن هل لديهم أدب هناك لكي تدرسه؟" جاء الرد المتوقع متبوعاً بنصيحة .. متوقعة أيضاً: "لكن حتى إن كان لديهم أدب، ألم يكن من الأجدى لك أن تدرس الأدب العربي، أدب أهلك وبلادك بدلاً من ذلك؟" كان زهوي بنفسي يخف كثيراً وأنا أواجه واقعاً اجتماعيا - ثقافياً يرى في ذلك الوقت أن من غير الطبيعي لابن الثقافة العربية أن يعبر القارات والبحار لكي يدرس أدباً أجنبياً. ومع ذلك لم يذهب الدرس الذي تعلمته في ذلك الواقع الاجتماعي – الثقافي بكل ما كان لدي من احترام لذاتي، مع أنه كان علي أن أمضي أعواماً، أن أنتظر أطول كي أرى بوضوح أن ما كنت مشغولاً به لم يكن غير مفيد أو خارجاً عن الوضع الطبيعي، أنني كنت أشارك في مسعى يهدف إلى تقريب الثقافة المحلية في بلادي إلى العالم. عندما انضممت في أواسط الثمانينيات إلى حداثة أدبية تتنامى رأيت عدداً من الكتاب المحليين ينتجون من الشعر والقصة والمسرح والنقد ما يتجاوب مع محاولات سبقت سواء في اللغة العربية أو في الآداب الغربية في مسعى يهدف إلى بث روح التجديد في لغة الأدب وخياله. كان جزءاً من نزعة عالمية إلى التحديث. إن الأدب المنتج في السعودية على مدى الثلاثة عقود الأخيرة تقريباً، بل الأدب المنتج في بلدان الجزيرة العربية كلها ومنها دول الخليج، كان جزءاً من إعادة تشكيل للحياة والثقافة، جزءاً من محاولة واجهت النجاح والإخفاق معاً. كانت إعادة التشكيل تلك جزءاً مما يعرف في حقول أخرى من العلوم الاجتماعية، لاسيما الاقتصاد والاجتماع، بالتنمية. وفي الملاحظات التالية أود أن أستعرض ملامح لتلك التنمية من زاوية ثقافية أدبية بوجه خاص آملاً أن المسعى إلى "تقريب الثقافة المحلية إلى العالم" تمخضت فعلاً عن ظاهرة جدير بالعالم أن يعرفها. وأحد الأسباب الرئيسة التي تجعل من المهم أن يعرف العالم عن ذلك النشاط ان العالم ولأمد طويل تجاهل ما هو إيجابي وبناء مركزاً أنظاره على السلبي من الصور النمطية التي احتلت المشهد نتيجة لكل أنواع العنف والرؤى والمناشط الضيقة الأفق مما اجتذب اهتمام العالم وتغطياته الإعلامية. إن العنف والعقلية الضيقة الأفق، المسؤولان عن العنف عادة، مشكلة يعاني منها العالم أجمع، فليس العالم العربي أكثر معاناة منها من غيره، والحياة الأدبية في العديد من الدول العربية، وبشكل خاص في السعودية، عانت في السنوات الأخيرة الكثير نتيجة لتلك المشاكل وواجهتها بتمثلها والتعبير عن وجهات النظر تجاهها وتبني المواقف نحو أثرها. لقد رفض الكتّاب عبر تلك السنين أن تعيقهم تلك السلبيات واستمروا في عمل ما يعمله الكتّاب في كل مكان: أن ينظروا من زاوية إبداعية في الوجوه الأخرى من الحياة الإنسانية، سواء أكانت جميلة أم قبيحة، إيجابية أم سلبية، ولكنها مهمة في كل الحالات. فبالإضافة إلى القضايا الرئيسة التي تؤثر في الحياة السياسية، ركز العديد من الكتاب، والشعراء والروائيون وكتاب القصة القصيرة وغيرهم على التحديات الكامنة بالضرورة في عملية التحديث التي تغمر الدول النامية، خاصة التغيير الفكري والاجتماعي – الاقتصادي. ضمن هذا الإطار، أود أن أركز النظر هنا في قضية رئيسة واحدة أجدها ذات مغزى ليس للحياة الأدبية التي أرسم خارطتها بإيجاز شديد فحسب وإنما أيضاً وربما بشكل خاص للجمهور غير العربي. أشير بهذا إلى "الآخر"، الذي أعني به الآخر غير العربي وغير المسلم سواء من الناس أو الثقافات. تركيزي سيكون على كيفية تصويرهم، والمواقف المتخذة إزاءهم، والدلالة المعطاة لهم. ذلك أن هذه قضية تكتسب إلى جانب أهميتها العالمية أهمية خاصة في الأدب السعودي بطرق عدة سواء في الشعر أم السرد. قبل الدخول في الأعمال الأدبية، يبدو من المفيد أن أبدأ بمعلومات عامة حول التاريخ السعودي. فعلى عكس التصور النمطي الذي يظهر المملكة العربية السعودية بوصفها ليست أكثر من بلاد مغلقة عن العالم ومجتمعها مغالٍ في محافظته، أرى الحقيقة في أن المملكة انفتحت على العالم منذ تأسيسها قبل حوالي مائة عام حين وفدت إليها مجموعات بشرية متعددة وأفراد من كافة أنحاء العالم (هذا إلى جانب انفتاح المناطق المقدسة منها قبل التأسيس ومنذ ظهور الإسلام على المسلمين من كل مكان). لقد رحب الملك عبدالعزيز، مؤسس المملكة، بأفراد عديدين من غير العرب وغير المسلمين، وفيما بعد، حين أخذ البترول في التدفق، شكلت "أرامكو" تدفقاً ضخماً من الأجانب على المملكة. الخلفية البدوية والمحافظة لبعض فئات المجتمع السعودي في ذلك الوقت جعلت عملية تقبل الأجانب ودمجهم بطيئة ومليئة بالصعوبات، ومع ذلك فإنه لم يمض وقت طويل حتى انتشر غير العرب وغير المسلمين في كل مكان ليصبحوا ظاهرة مألوفة. واليوم، وكما تشير أحدث الإحصائيات السكانية، فإن الأجانب يمثلون ثلث سكان السعودية، أي حوالي عشرة ملايين من ثلاثين مليوناً. الكثير من أولئك جاؤوا من دول آسيوية، ولكنهم يشتملون أيضاً على أعداد كبيرة من دول أخرى منها الدول الغربية. رؤية أولئك القادمين إلى السعودية ممثلين في الثقافة المحلية ليس غريباً لتلك الأسباب. ما يثير الاهتمام ليس حضورهم في الثقافة وإنما هي الكيفية التي يحضرون بها. الأعمال الأدبية تعكس في المقام الأول رؤية فردية للكاتب، غير أن من تلك الرؤية ما يتضمن رؤية للعالم يشترك فيها الكتّاب مع مواطنيهم. وبعض تلك الرؤى يتضمن مساعي فردية وجماعية لتحقيق أهداف تنموية أو تطويرية حيال المجتمع. الكتّاب، بتعبير آخر، يفصحون عن رؤى شعبية بقدر ما، ولكنهم في حالات أخرى يتبنون مواقف خاصة بهم يسعون من خلالها إلى التدخل في المخيلة الجماعية لغرس طرق معينة في النظر إلى الشعوب والثقافات الأخرى، وسأتوقف فيما يلي عند بعض الأمثلة التي توضح ما أذهب إليه.