عندما لم تنجح منظمة أوبك في خفض الحصص الإنتاجية الشهر الماضي، كان رد الفعل الأولي للمستثمرين هو التهليل والترحيب، باعتبار أن هذا من شأنه تحقيق مزيد من المدخرات لصالح مشتري الطاقة، بيد أن هذه الاحتفالات ربما جاءت سابقة لأوانها. في الواقع، إن انخفاض أسعار الغازولين الأميركي دولارا واحدا منذ أبريل (نيسان) يكافئ بالفعل ارتفاع بنسبة 1 في المائة في قدرة المستهلكين على الإنفاق. وبطبيعة الحال، يمكن ادخار البعض من ذلك بدلا من إنفاقه، على الأقل في البداية. وداخل الدول التي تتسم بضرائب ثابتة على الوقود، مثل الصين، سيأتي التأثير الاقتصادي أكبر. في الوقت ذاته، قد تستفيد الشركات الأميركية المصنعة للسيارات من تنامي مبيعات السيارات الرياضية متعددة الأغراض والشاحنات الخفيفة ذات الاستهلاك المرتفع للطاقة، والتي تعود على الشركات بأرباح كبيرة. كما أن مستوردي الطاقة، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية ودول شرق آسيوية أخرى، يستفيدون من انخفاض أسعار الطاقة. يذكر أن الصين تستورد 60 في المائة من إجمالي الـ9.6 مليون برميل التي تستهلكها يوميا. ومن بين الدول الأخرى المستوردة للطاقة المستفيدة من تراجع أسعار النفط الهند وتركيا ودول غرب أوروبا وباكستان ومصر ودول أخرى تقدم دعما لتكاليف الطاقة، حيث ستتمكن هذه الدول من تقليل نفقاتها، رغم أن بعض المكاسب ستتلاشى جراء ضعف اليورو وعملات أخرى، وكون النفط مسعرا بالدولار الأميركي الأغلى، إلا أن قائمة المتضررين بسبب انخفاض أسعار النفط تفوق الفائزين، فبمجرد بدء الأسعار في الانخفاض سارعت شركات الطاقة لخفض النفقات الرأسمالية، التي كافأت 0.9 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي الأميركي عام 2013، وهو النصيب الأعلى من نوعه منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. كما تراجع مؤشر شركات الخدمات البترولية الميدانية بقرابة 40 في المائة عن أعلى نقطة وصل إليها. من جهتها، كسبت «جنرال إلكتريك» من شركات نفط وغاز طبيعي 14 مليار دولار منذ عام 2007، ومنذ 3 أشهر قالت إن الافتراضات الأساسية التي عملت على أساسها تضمنت استقرار سعر خام برنت حول مستوى قرابة 100 دولار للبرميل. واعترف الرئيس التنفيذي للشركة، جيفري إميلت، بأنه مع وجود أسعار النفط حول مستوى 60 دولارا، فإن أرباح الشركة قد تتراجع العام المقبل. أيضا، تضم قائمة المتضررين الشركات المنتجة للنفط من الرمال في كندا، التي تسبب نقص وسائل النقل لديها في دفع الأسعار إلى 48 دولارا للبرميل بحلول أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو ما يقل كثيرا عن إجمالي نفقات الإنتاج البالغة قرابة 85 دولارا. وتنوي «كاناديان أويل ساندس»، أكبر مساهم في شركة «سينكرود» العملاقة العاملة بمجال النفط الرملي، خفض حصتها بمقدار قرابة النصف. أيضا من بين الجهات التي تواجه مخاطر كبيرة شركات إنتاج النفط والغاز الطبيعي بأميركا الشمالية التي تتسم بمعدلات رفع مرتفعة. وتكشف الأرقام أن أسوأ 10 شركات طاقة من حيث الأداء بمؤشر «روسيل 3000» تتحمل ديونا تبلغ 4 أضعاف قيمتها السوقية. في المقابل، نجد أن المعدل السائد في قطاع الطاقة هو 1.2 ضعف فقط. وقد تضطر الظروف المالية الضاغطة جهات إنتاج الطاقة وشركات الخدمات الواهنة إلى بيع ممتلكات لها أو بيع نفسها، وقد تواجه حينها ندرة في المشترين حتى تستقر أسعار الطاقة. وقد تواجه الكثير من الشراكات المحدودة بقطاع الطاقة مشكلات في الوقت الراهن. الملاحظ أن السندات الرديئة تنتشر لما وراء سوق الطاقة مع انسحاب المستثمرين المذعورين. منذ يونيو (حزيران)، سحب المستثمرون 22 مليار دولار من تمويلات السندات الرديئة مع بدء إدراكهم لأنهم يواجهون مخاطرة أعلى مما كانوا يعتقدون. علاوة على ذلك، فإن تنظيمات ما بعد الأزمة المالية تحد من مشاركة المصارف في أسواق الأوراق المالية الرديئة، وتزيل تأثيرها الداعم باعتبارها مورد للسيولة. وينطبق الأمر ذاته على القروض المرفوعة التي غالبا ما تقدمها المصارف لتمويل صفقات الأسهم الخاصة (التي تشعر هيئة الاحتياطي الفيدرالي بقلق كبير حيالها). في الخارج، تبدو الدول المنتجة للنفط التي تعاني من سوء إدارة بالغ، مثل فنزويلا ونيجيريا، أمام صعوبات كبيرة، حيث تحتاج إلى ارتفاع الأسعار لما فوق مستوى 100 دولار للبرميل كي تتمكن من تلبية احتياجات موازناتها. أما روسيا، فقد تحولت إلى النموذج الممثل للمصاعب التي تعانيها الدول المصدرة للنفط، فحتى من قبل إقدام المصرف المركزي الروسي على رفع معدلات الفائدة إلى 17 في المائة من 10.5 في المائة في 16 ديسمبر (كانون الأول)، أعلنت موسكو أن الاقتصاد قد ينكمش بمعدل يصل إلى 4.7 في المائة العام المقبل، إذا بقيت أسعار النفط قريبة من مستوى 60 دولارا للبرميل. ومع تراجع قيمة الروبيل بنسبة 40 في المائة هذا العام، ما دفع أسعار الاستيراد وزادت أسعار الفائدة المرتفعة من التكاليف الائتمانية، فإن معدلات التضخم في طريقها نحو الارتفاع. يذكر أن التضخم قفز بالفعل 9.1 في المائة في نوفمبر عن الشهر ذاته منذ عام مضى. لذا، ليس من المثير للعجب أن نرى المستهلكين الروس يصطفون لشراء الأثاث والهواتف النقالة والسلع الأخرى قبل أن تقفز أسعارها. ومع إضافة العقوبات المفروضة بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، فإنه من المتوقع أن تعاني الصادرات الأوروبية الغربية لروسيا من السيارات وسلع الرفاه والمواد الترفيهية الأخرى، وبالفعل بدأت أسعار الأسهم تعكس التوقعات بحدوث ذلك. على الجانب الآخر، من الواضح أن الروس على استعداد لتحمل الكثير من العقاب، حيث لا تزال معدلات تأييد الرئيس فلاديمير بوتين عند مستوى 80 في المائة، كما أنه يتمتع بسيطرة هائلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ولا يزال بوتين يلعب ببطاقة المشاعر الوطنية، حيث يلقي باللوم عن جميع مشكلات روسيا، بما في ذلك العقوبات المرتبطة بموقفه من أوكرانيا، على كاهل حكومات ومضاربين أجانب، في محاولة لإلهاء الرأي العام الروسي عن المشكلات الداخلية. الملاحظ أن المصاعب التي تعانيها روسيا الآن تشبه مع تعرضت له عام 1998، لكن إلى حد ما فقط. في المحنة السابقة، وفي أعقاب الأزمة المالية الآسيوية، قلصت روسيا قيمة الروبل بأكثر من 70 في المائة على امتداد أشهر قلائل وعجزت عن سداد ديونها. وسعيا لاحتواء الأزمة ومعاونة النظام الديمقراطي الجديد، تولت الولايات المتحدة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي خطة لإنقاذ الاقتصاد الروسي. الآن، ومن دون انسحاب بوتين من أوكرانيا، يبدي الغرب حماسا ضئيلا حيال تقديم العون لروسيا. لذا فإن إمكانات وقوع أزمة مالية عالمية أخرى قد تكون أكبر مما كان عليه الحال أواخر تسعينات القرن الماضي. من جانبي، كنت أتطلع نحو صدمة اقتصادية تنهي الانفصال القائم بين أسعار الأسهم العادية الآخذة في الارتفاع الشديد (بدعم من ثروات المصارف المركزية) والاقتصادات المترنحة. منذ الأزمة المالية التي وقعت عام 2008، شجعت أموال المصارف المركزية الأفراد والشركات والدول على الاقتراض بمعدلات منخفضة، إلا أن التراجع السريع والحاد في أسعار النفط وسلع أخرى يزيد صعوبة سداد هذه القروض مع تفشي حالة الانكماش بمختلف أرجاء العالم، وتراجع جميع العملات تقريبا أمام الدولار الأميركي. وفي ما يتعلق بسوق الأسهم الأميركية، فإنها رغم تحركها نحو الارتفاع في الوقت الراهن قد تبدي استجابة سلبية لتراجع تكاليف الطاقة، ما يوحي بأن المخاطر المالية المترتبة على انخفاض أسعار النفط قد تفوق المكاسب التي جناها المستهلكون. وحال حدوث أزمة مالية عالمية، تصاحبها حالة ركود عالمية، فإن استراتيجيات الاستثمار ستتحول حتما بعيدا عن استعدادها الراهن لخوض المخاطر إلى العمل على تجنبها. وفي إطار هذا السيناريو، من المتوقع أن نشهد تكالبا على الأمان الذي تمثله سندات الخزانة والدولار الأميركي، وهروبا جماعيا عالميا بعيدا عن السلع والأسهم. المثير أن معظم هذه الأحداث بدأ يجرب بعضها بعضا بالفعل، حيث يقبل الأميركيون والأجانب بأعداد غفيرة على سندات الخزانة، بينما اتسم الدولار بالنشاط أمام الين واليورو اللذين جرى تقليص قيمتهما عمدا، بجانب عملات الدول المصدرة للسلع مثل أستراليا ونيوزيلندا وكندا وروسيا، في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار السلع، من النفط إلى النحاس إلى السكر. ولم يتبقَّ الآن سوى أسعار الأسهم التي لم تتراجع بصورة حادة بعد. وحتى هذا قد يتبدل إذا استمرت أسعار النفط في الانخفاض. * بالاتفاق مع «بلومبيرغ».