يعدّ طه حسين من أوائل المثقفين العرب الذين دعوا إلى "الذوبان" في الغرب. ورد ذلك في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أكد فيه على أنه ينبغي أن نتصل بالغرب حتى نصبح جزءاً منه "لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً" بل علينا أن نشعر الغربي بأننا "نرى الأشياء كما يراها، ونقوّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها". وكانت هذه الدعوة قد وجدت لها صدى لدى عدد كبير من كبار المثقفين العرب في النصف الأول من القرن العشرين، ومنهم لطفي السيد، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وغيرهم، واطردت في كثير من الممارسات الفكرية ومازالت حاضرة بقوة في الثقافة العربية، ونمثل عليها برأي باحث عربي معاصر، هو "عادل فاخوري" الذي لا يرى مستقبلا للثقافة العربية إلا بالاندماج التام مع الثقافة الغربية "إذا كان العرب يريدون أن يتماشوا مع حضارة القرن العشرين - ناهيك بالواحد والعشرين- فالأجدى لهم أن يترجموا الروائع الأجنبية.. لا أن يؤلّفوا. وهذه الحال تنطبق على المصنوعات الثقافية كما تنطبق على المصنوعات الاقتصادية. فكما من غير المجدي إقامة المصانع للطيارات والسيارات والكمبيوترات وشتى التكنولوجيات لأن انتاجها المحلي سيكون أردأ من إنتاجها الغربي، كذلك فإن كل تأليف في اللغة العربية، في ميدان الخصوص من ميادين المعرفة الانسانية والعلمية سيكون أقل مستوى من هذا التأليف نفسه في الغرب. لذلك كان لابد من استيراد الصناعة الثقافية عن طريق الترجمة من الغرب". وبغض النظر عما تقود إليه هذه الدعوة، فيما يخص الهوية الحضارية فإن المعايير التي وضعها صاحب هذا الموقف تثير كثيرا من الأسئلة حول صلاحية ثقافة الآخر لغيره، وحول مدى استعدادها لأن تسهم في حل الاشكاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمور في أوساطه. ينطلق صاحب هذا الرأي من تصور يرى أن الصراع بين الحضارات أمر محتّم، وفي ضوء ذلك فإن العرب غير جديرين بمجابهة عملاق في الحضارة مثل الغرب و"من المستحسن تقليده ومحاكاته" لأنه لا يمكن أن "نتوقع أن يقف العالم العربي بحضارته في وجه الغرب". يصدر هذا الموقف من نظرة ترى العالم ميدان صراع لا حقل حوار. وفي ضوء ذلك فإنه يقترح امكانات فكرية تناسب منظوره للعالم، ومنها أن "الثقافة العربية" لا يمكن لها أن تتكون إلا بالاندماج ب"الثقافة الغربية في كل تصوراتها ومعطياتها، واستبدال التفكير العقلي الذاتي بنوع آخر من "التفكير" قوامه استهلاك ما يقدمه الغرب من صناعات ثقافية، وهذا الموقف يمثل جانبا مما بلغته ثقافة التمركز الغربي في بسط نفوذها وهيمنتها في العالم". ثمة موقف نقيض يصدر عن رؤية تهدف إلى مطابقة الماضي والاهتداء بموروثه، وصولا الى هوية ثقافية صافية، ولها أنصار كثيرون، منهم حسن حنفي الذي كتابه "مقدمة في علم الاستغراب" لذلك، مقترحا فيه حقلا للبحث يصطلح عليه ب"الاستغراب" الذي هو نقيض "الاستشراق" وبه كما يقول حنفي "يمكن فك العقدة التاريخية بين الأنا والآخر، وقلب الموازين وتبادل الأدوار، فاذا كان الغرب قد سيطر على الشرق، وركّب له صورة تمثّل تصوراته، دون اعتبار لخصائصه الذاتية فلابد إذن من الانطلاق صوب هدف محدد، وهو القضاء على مركزية الغرب، وتقوية ثنائية المركز والأطراف، واعادة التوازن للذات، فالقول بشمولية الحضارة الغربية وكونيتها، يفضي إلى الإيمان بها بوصفها صالحة لكل زمان ومكان. وبوساطة "الاستغراب" يمكن السيطرة على الوعي الغربي، وتفكيك طغيانه، ودراسته بوصفه وعياً غربياً محضاً وليس وعياً عالمياً، ثم الانتقال بعد ذلك الى مرحلة رد الغرب الى حدوده الطبيعية والثقافية وايقاف الأذى الذي يلحقه بالحضارات الأخرى بل القضاء على أسطورته الثقافية، وافساح المجال أمام الشعوب للتحرر من الغطاء الذهني الغربي المهيمن عليها والتخلص من عقدة الخوف وعقدة النقص، وإعادة كتابة التاريخ بما يحقق المساواة بين الشعوب، وتأسيس فلسفة جديدة مغايرة للفلسفة واعادة كتابة التاريخ بما يحقق المساواة بين الشعوب، وتأسيس فلسفة جديدة مغايرة للفلسفة الغربية التي ترى العالم بأجمعه موضوعا لها، وان المعطيات الثقافية الأخرى انما هي صدى من أصدائها وتجلياتها "الذاتية". وينتهي حنفي الى التأكيد على أنه لا سبيل أمامنا غير هذا "فبدون تقويض التمركز العرقي والثقافي الغربي، لا يمكن التفكير بإنشاء كيان ذاتي أصيل". يضع هذا المشروع نفسه داخل اشكالية مزدوجة فهو يبحث عن الصفاء الذاتي، ولكن ذلك لا يتم إلا بدمار الآخر، وهو من هذه الناحية يماثل الموقف الأول، فالذات لا تتكون الا بالإجهاز على الآخر، كما يمثله هذا الموقف، وهي لا تتكون الا بالاندماج الكلي مع الآخر، وفيما يخص حنفي، فإن تصور وجود هوية صافية، قاده الى البحث عن قطيعة مع الآخر، فعنده أن الحضارة الغربية طردية، تنمو وتبدع بالانطلاق من المركز والابتعاد عنه، في حين أن الحضارة الاسلامية مركزية تنمو وتبدع بالنسج حول مركز. وهو تصور يسعى إلى ترتيب الظواهر الثقافية لتوافق الأهداف التي يريد الوصول اليها. يعالج هذا التصور موضوعه على غرار معالجة "الاستشراق" لموضوع "الشرق". ولهذا فهو، بحسب تعبير سمير أمين، نوع من "الاستشراق المعكوس" الذي يحلم ب"مركزية شرقية "تماثل "المركزية الغربية" متجاهلا الشروط التاريخية لكل منهما ناظرا الى الأمور من زاوية التباين المطلق بين الشرق والغرب، شأنه في ذلك شأن الاستشراق، إنه يرى أن الشرق والغرب بوصفهما جوهرين ثابتين متباينين، لا قدرة لهما على التفاعل مع بعضهما أبدا وبذلك ينفي أية امكانية للتواصل، وكأن المعرفة الانسانية حبيسة قلاع مقفلة لا يمكن لها أن تتواصل وتتفاعل. أردنا أن نعرض، بإيجاز، لموقفين متباينين، فيما يمكن أن يكوّن الهوية الثقافية، وأن نضع تحت الانظار جانبا من التصورات حول قضية غاية في الأهمية، الا وهي فلسفة التكوّن الثقافي في عصر الحداثة والتحديث، واذا تأملنا مليا في الموقفين سنجد أن الموقف الأول يصدر عن رؤية لا ترى سبيلا الى ذلك غير "مماثلة" الآخر، و"مطابقة" معطياته في شتى الحقول والميادين، دون مراعاة لطبيعة تلك المعطيات ومحاضنها الثقافية، وان الموقف الثاني يصدر عن رؤية لا ترى سبيلا الى ذلك غير "التطابق" مع الذات، بما يعطل إمكانية الافادة من الآخر والانكفاء على النفس، وهنا ينبغي علينا التأكيد على أن الاعتصام بالذات لا يقل خطرا عن التماهي في الآخر، فالأول مبعثه التعصب والانغلاق، والثاني مبعثه الضياع والحيرة، وكلاهما لن يفضيا الا الى مزيد من العزلة عن الآخر أو "التطابق" معه. وفي الحالين، نرى تغييبا واضحا لمبدأ يفرض حضوره وهو مبدأ "الاختلاف" الذي يتأسس بوساطة تعميق الرؤى الذاتية من جهة والحوار مع الآخر من جهة ثانية، وجعل الحاضر موجها ومنطلقا لجملة التصورات الفكرية وموضوعا للبحث والتجديد.