جدة: «الشرق الأوسط» أكد البروفسور جان ماري فريشيه، نائب الرئيس لشؤون الأبحاث في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، أنهم يعملون على تطوير مزيد من أبحاث العلوم والهندسة في المجالات العلمية التي تحتاج إليها المملكة، لافتا إلى أن المرافق المتقدمة في الجامعة تمنح الباحثين فرصة «لفعل أشياء رائعة، وأن يحدثوا فرقا». وقال فريشيه، في حوار مع «الشرق الأوسط»، إن التحدي الذي نجحت فيه جامعة الملك عبد الله هو استقطاب أفضل المواهب والعقول من أجل تحقيق رؤية الملك عبد الله، معلنا أن الجامعة ستدخل مرحلة النضج بعد 5 سنوات من الآن. وكان البروفسور جان ماري فريشيه قد حاز جائزة اليابان عام 2013، وهو من أشهر علماء الكيمياء المعاصرين والمتخصصين في مجال كيمياء البوليمرات. ويمتلك فريشيه ما يقارب من 900 ورقة علمية منشورة، وأكثر من 70 براءة اختراع في الولايات المتحدة. وفي عام 2010، انضم البروفسور فريشيه إلى أسرة جامعة الملك عبد الله قادما من جامعة بيركلي في كاليفورنيا، التي تنقل فيها بين عدة وظائف، فقد شغل وظيفة رئيس برنامج «هنري رابوبورت» في الكيمياء العضوية، إضافة إلى عمله أستاذا في الهندسة الكيميائية. وحظي البروفسور فريشيه خلال مسيرته العلمية بالتكريم من كثير من الجهات العلمية، وحصل على كثير من الجوائز، من ضمنها جائزة الإنجاز في علم البوليمرات التطبيقي من الجمعية الكيميائية الأميركية، وجائزة كيمياء البوليمرات، وجائزة «كاروثرز»، وجائزة «آرثر كوب». وهو الآن عضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، وفي الأكاديمية الوطنية للهندسة في الولايات المتحدة الأميركية. كما يعرف عن البروفسور فريشيه امتلاكه خبرة واسعة في مجاله، خصوصا بعد تطويره عدة تقنيات مثل تقنية التضخيم الكيميائي، وهي طريقة لإنتاج الدوائر المتكاملة والمقاومة للضوء، التي تدخل ضمن المكونات الرئيسية في تطوير أجهزة الكومبيوتر المتطورة والإلكترونيات الحديثة وغيرها. وإلى نص الحوار: * لماذا قبلت عرض جامعة الملك عبد الله، أي ما الذي جذبك لهذه التجربة الجديدة في المملكة؟ - بالنسبة لي، لم تكن جامعة الملك عبد الله مجرد جامعة جديدة، بل إنها جامعة بمهمة فريدة من نوعها ترتكز على حلم الملك عبد الله للبدء بعصر جديد من الاكتشافات العلمية في المملكة العربية السعودية. ونحن في الجامعة نعمل على تطوير مزيد من أبحاث العلوم والهندسة في المجالات العلمية التي تهم المملكة العربية السعودية على مستوى العالم، مثل الصناعات البتروكيماوية، وأيضا في المجالات العلمية الأخرى التي يمكن تطويرها لمواجهة تحديات الغد. ومن أكثر الأشياء التي تميز جامعة الملك عبد الله هو احتواؤها على مرافق هائلة وفي غاية التطور، لإجراء الأبحاث التي تستند على العلوم الأساسية، وبصورة أكبر على العلوم التطبيقية، وهو المنهج الذي تدعمه أفضل المؤسسات العلمية في العالم. وهذا يتوافق مع مهمة جامعة الملك عبد الله، حيث إننا - في الجامعة - ننظر في الأبحاث مع كثير من العلوم التطبيقية والمشاريع الموجهة لتحقيق أهداف معينة التي تتوافق مع احتياجات المملكة. ومن الأدوار المنوطة بي بصفتي نائب رئيس الجامعة لشؤون الأبحاث، هو المساهمة في قيادة المجالات البحثية الجديدة.. فعلى سبيل المثال عند اختيار هيئة التدريس في الجامعة أو استقبال باحثين جدد، فإننا نختار المجالات البحثية التي تتوافق مع الاحتياجات المستقبلية للجامعة. وهذا شيء يمكن أن يحدث فقط في الجامعات والمعاهد الجديدة فقط، ولا ينطبق على الجامعات العريقة؛ حيث يبقى العلماء أنفسهم والبرامج نفسها دون تغيير. ولأن جامعة الملك عبد الله بدأت من نقطة الصفر، كانت لدينا فرصة كبيرة لتصميمها بصورة تتوافق مع أولويات الجامعة الحالية والمستقبلية. وفي الحقيقة، أكثر ما جذبني في جامعة الملك عبد الله هي مرافقها العلمية المتقدمة وإمكاناتها البحثية الكبيرة. فعندما زرت الجامعة أول مرة في عام 2009، كنت قادما من جامعة بيركلي، التي تعتبر واحدة من أفضل الجامعات في العالم، وكنت حقا مندهشا من جامعة الملك عبد الله، خصوصا أنها شيدت بطريقة رائعة وبمرافق متطورة، وبسبب أنها صممت على نموذج أكاديمي فريد من نوعه يضم 3 قطاعات أكاديمية رئيسية، بالإضافة إلى مراكز بحثية متطورة، وهذا المستوى العالي من التشييد والتخطيط والتجهيز يستغرق في العادة سنوات وسنوات. فعندما رأيت الجامعة أول مرة وهي لا تزال في خطواتها الأولى وتمتلك مثل هذه المرافق المتقدمة، وفي وقت قياسي، قلت في نفسي: هنا سيجد أي باحث فرصة كبيرة للقيام بأعمال بحثية رائعة تترك أثرا. * التحدي الكبير * عندما وصلت إلى هنا لأول مرة، ما التحديات التي واجهتك، وما خطتك للتغلب عليها؟ - زرت جامعة الملك عبد الله أول مرة في عام 2009، وبدأت العمل فيها في شهر مايو (أيار) من عام 2010. وكانت الجامعة لا تزال في مرحلة مبكرة من التشغيل. وكانت لدينا العقبات التقليدية التي تصاحب أي مشروع ناشئ؛ مثل التأكد من انطلاق برامجنا التعليمية والبحثية بسلاسة، وتحسين المنشآت، وبناء مختبرات إضافية لأعضاء هيئة التدريس الجدد، وإنشاء خطوط تموين موثوق بها لتلبية احتياجات أبحاثنا من المواد الكيميائية وغيرها من المستلزمات. وأحد التحديات الرئيسية لنا في ذلك الوقت، كان الحصول على اللوازم والمواد الكيميائية في غياب نظام مخصص لذلك. كما أن المواد البيولوجية تحتاج للحفظ في درجات حرارة منخفضة جدا (-30 درجة مئوية)، وهذا يمثل تحديا كبيرا في مناخ المملكة العربية السعودية. وبشكل عام، فإن خطوط التموين والإمداد كانت صعبة في البداية، إلا أن قسم المشتريات في الجامعة استطاع لاحقا تخطي كل العقبات، ووضع نظاما مخصصا وسلسا لذلك بالتعاون مع الجهات المختصة التي قدمت كثيرا من المرونة في هذا الإطار. ويجب ألا نغفل حقيقة أنه من الصعب جدا أن تبدأ جامعة ضخمة وبهذا المستوى بين عشية وضحاها، حيث تحتاج الجامعات إلى فترة زمنية طويلة قد تصل إلى عقود أو حتى قرون في بعض الأحيان. وبعد أن انتهت شركة «أرامكو السعودية» من بناء هذا الحرم الجامعي البديع، كانت المباني والبنية التحتية جميعها جاهزة، ولكن كانت لدينا عدة تساؤلات عن أنوع المختبرات والمرافق والمعدات التي نحتاجها؟ لقد قامت شركة «أرامكو» بمجهودات جبارة لتوفير هذه البنية التحتية الرائعة في هذا المكان الجميل، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه البنية التحتية كانت تفتقر للمسات الأخيرة، فضلا عن المهمة المعقدة، وهي إيجاد الطلبة وهيئة التدريس والباحثين المناسبين لبث الروح في الجامعة. التحدي الأكبر كان في استقطاب أفضل الناس بما يتناسب مع مستوى الجامعة ورسالتها، فنحن أردنا ولا نزال نريد أفضل المواهب والعقول من أجل تحقيق رسالة الجامعة على الوجه الأكمل. * فروق جوهرية * من وجهة نظرك، بماذا تتميز جامعة الملك عبد الله عن غيرها من جامعات المملكة؟ - نحن جامعة صغيرة تركز على العلوم والهندسة، ولا نقدم البرامج الأكاديمية الأخرى الموجودة في الجامعات الأخرى مثل العلوم الإنسانية، والطب، والقانون، وهذا فرق جوهري. ونحن أيضا انتقائيون جدا من حيث الأبحاث في مجالات العلوم والتقنية. والفرق الآخر هو أننا جامعة للدراسات العليا فقط، ولدينا حاليا 840 طالبا وطالبة يدرسون درجتي الماجستير والدكتوراه.. وهذا يجعلنا جامعة فريدة من نوعها ليس فقط في المملكة العربية السعودية، بل حتى في العالم. وتنظيميا، اعتمدت جامعة الملك عبد الله نموذج معهد كاليفورنيا للتقنية الذي يضم مجموعة من الإدارات تحت 3 أقسام أكاديمية فقط. كما أن الجامعة مصممة على طريقة الهيكل المصفوف أي على نموذج «ماتريكس (matrix) » الذي يعتمد على التداخل بين مراكز الأبحاث والأقسام الأكاديمية. وتدعم الجامعة منهجا متعدد التخصصات، يشجع على التعاون البحثي بين العلماء والمهندسين من مختلف الأقسام ومراكز الأبحاث، مما يلهم استحداث مناهج جديدة ويعزز التعاون البحثي، وبالتالي نخرج بابتكارات واكتشافات كبيرة. وعادة ما تبدأ الجامعات بالتعليم والأبحاث بصورة عامة، وبعد مرور بعض الوقت تبدأ بالتخصص في مجال معين، لكن ما يميز جامعة الملك عبد الله هو أننا أنشأنا مراكز أبحاث متخصصة ومحددة الأهداف منذ البداية بهدف معالجة التحديات في المجالات ذات الاهتمام الوطني مثل المياه والغذاء والطاقة. * نجاح الجامعة * إلى أي مدى يمكن أن تنجح الجامعة في تحقيق أهدافها العلمية والبحثية والتنموية على مستوى الواقع؟ - نجاح جامعة الملك عبد الله يقاس بعدة طرق مختلفة.. فعلى سبيل المثال يمكننا قياس نجاح الجامعة بالطرق الأكاديمية التقليدية، ونعني بذلك أننا ننظر إلى نتائج الأبحاث وما ينشر منها. واعتبارا من شهر يوليو (تموز) عام 2014 بلغ عدد أبحاث الجامعة المنشورة 4000 بحث علمي مميز، وهذا إنجاز ملحوظ إذا ما نظرنا إلى صغر حجم الجامعة وحداثتها. ونحن نهتم أيضا بجودة الأبحاث: مدى حداثة البحث؟ هل يمثل اكتشافا كبيرا لم يسبق نشره أم مجرد تحسن طفيف؟ نريد تحقيق ابتكارات وأبحاث كبيرة. ونحن فخورون جدا بأن نسبة مهمة من أبحاثنا تصدرت المجلات العلمية ويتم الاستشهاد بها بكثرة. كما يمكن قياس نجاح الجامعة عبر النظر في براءات الاختراع: هل يمكن أن ينتج عمل تجاري ناجح أو شركة ناشئة من هذا البحث؟ إذا كنت تريد تحقيق عمل تجاري في مجال العلوم والتقنية، فأنت تحتاج إلى الملكية الفكرية؛ أي البراءات. في عام 2012، احتلت جامعة الملك عبد الله المرتبة الثالثة لعدد براءات الاختراع السعودية المسجلة بعد شركة «أرامكو السعودية» وجامعة الملك سعود. وهو أمر جيد بالنسبة لحجم الجامعة مقارنة مع هذه الجهات العريقة. الملكية الفكرية، والشركات الناشئة، وبراءات الاختراع، هي من المخرجات المهمة لنا، وجهودنا مستمرة في هذا المجال دون توقف، خصوصا في مجال الملكية الفكرية، حيث نهدف لزيادة عدد الشركات الناشئة في المملكة، وأن نوجه براءات اختراعاتنا لتطوير سوق العمل السعودية. وأحد المقاييس المهمة لنجاح الجامعة هو جودة المنتج. وأهم منتج للجامعة هو طلبتها وزملاء ما بعد الدكتوراه. هل هم جيدون؟ هل هم مطلوبون من قبل الشركات والمؤسسات الحكومية؟ كلما كانت جودة خريجي الجامعة عالية، زاد الطلب عليهم. وبما أننا جامعة فتية، فإننا نمتلك عددا قليلا من الخريجين( أقل من 900 خريج)، إلا أن معظم خريجينا يحصلون على وظائف جيدة جدا. ويعمل نحو 60 في المائة منهم داخل المملكة لزيادة المساهمة في تعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة، بينما يذهب بقية الخريجين إلى العمل في كبريات الشركات والمؤسسات في العالم. وباختصار، فإنني فخور جدا بجودة مخرجات الجامعة، فمنشورات وبراءات الاختراع تمثل الموارد الفكرية للجامعة وتعطي المنتمين للمكان تميزا عاليا جدا، وهذا يدل على أننا نسير في الطريق الصحيح. * «الاحتراق» و«الحفز» * بعد مرور 5 سنوات على افتتاح الجامعة، ما أبرز المخرجات والأبحاث التي قامت بها الجامعة؟ - من الصعب تحديد وتسمية منتج واحد بوصفه أهم منتج للجامعة؛ فهناك الكثير.. ومن الأمثلة على ذلك، أننا قمنا بتطوير مراكز الأبحاث لدينا لتكون من بين الأفضل في العالم، ولدينا «مركز أبحاث الاحتراق النظيف» الذي يبحث في الوقود وإنتاج الطاقة، والتوربينات.. وغيرها، ويعد مركزا بحثيا فريدا من نوعه في العالم، حيث يمتلك تجهيزات متطورة لا يمكن وجودها في أي مكان في العالم وتحت سقف واحد. ولدينا أيضا مركز الحفز الكيميائي الذي يقوم بأعمال جيدة وفي غاية الأهمية للصناعات البتروكيماوية، ومركز تحلية وإعادة استخدام المياه الذي قطع أشواطا كبيرة في تطوير تقنيات تحلية المياه، واستطاع الوصول إلى مرحلة إنشاء محطات تحلية المياه التجريبية. ويتم حاليا تطوير إحدى هذه المحطات خارج الجامعة لإنتاج مياه نظيفة للاستخدام الصناعي لشركة سعودية، حيث تعمل هذه المحطة بنظام اقتصادي يمكنه إنتاج كميات كبيرة من المياه ويستخدم طاقة أقل. إنه لمن غير المألوف أن تمتلك القدرة على إجراء الأبحاث، وإنشاء محطات تجريبية، والدخول في مجال الصناعة، في فترة وجيزة؛ ولكن جامعة الملك عبد الله أنجزت ذلك، وهو أمر مدهش حقا، ونجاح باهر يشار إليه. * مرحلة استكمال الطاقة الاستيعابية * أين ترى الجامعة بعد 5 سنوات؟ - بعد 5 سنوات من الآن ستكتمل الطاقة الاستيعابية، وسوف يكون عدد أساتذة الجامعة في حدود 200 أستاذ، والطلبة 2000 طالب وطالبة. وأنا على يقين تام من أنه في غضون السنوات الخمس المقبلة سنكون في مرتبة أفضل الجامعات في العالم في مجال العلوم والهندسة. ولكن تظل على عاتقنا مهمة أكبر بكثير من الاعتراف العالمي، وهي أن تساهم أبحاثنا واكتشافاتنا بالنفع الكبير للمملكة العربية السعودية، وتنمية اقتصادها للوصول إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، تحقيقا لرؤية خادم الحرمين الشريفين الطموحة والرائعة.